«سوق الثلوث» في أبها .. دورة اقتصادية ثقافية متكاملة
الماضي دائما له حضوره المميز، رغم الصور العصرية المختلفة التي تتمثل في عديد من الأنماط الحياتية، من بينها انتشار المجمعات والمراكز التجارية الكبيرة، إلا أن الأسواق الشعبية القديمة لا تزال تحتفظ بجاذبية كبيرة لكثير من الناس الذين يجدون في أرجائها نكهة القديم والبساطة والعفوية في عمليات البيع والشراء.
أما في عسير، فالأسواق الشعبية ارتبطت بأسماء تحاكي أيام الأسبوع، كسوق الخميس، أو سوق الأربعاء، وكذلك سوق الثلاثاء الأسبوعي أو سوق "الثلوث" كما يقال له باللهجة العامية، الذي تتجول "الاقتصادية" في جنباته.
منذ 200 عام
يقع سوق الثلاثاء الأسبوعي وسط مدينة أبها، وهو سوق ذو تاريخ عريق يعود لأكثر من مئتي عام، وتنقل بين عدة أماكن وسط المدينة، وكان قديما يقام مرة في الأسبوع، بينما الآن تحول لسوق دائم طوال الأسبوع.
وسمي بهذا الاسم نسبة ليوم انعقاده، وهو يوم الثلاثاء من كل أسبوع، حيث يلتقي المنتج والمستهلك ويتم البيع والشراء، واستطلاع أخبار الأمطار والأسعار والتجار والمستجدات، وتعقد مجالس إصلاح ذات البين، وحل المشكلات الاقتصادية وغيرها، إضافة إلى تدعيم ضوابط التسويق وتطبيقاتها. وكان الناس يتقاضون فيه ويحلون كثيرا من خلافاتهم، وكان من يذهب للسوق يعود لقريته محملا بكثير من السلع والمنتجات التي جلبها من سوق الثلاثاء له ولمعارفه وجيرانه، في إطار التعاون الذي كان يسود بين مجتمعاتهم لقضاء حاجاتهم، ثم يجتمع إلى جيرانه وأقاربه على وجبة العشاء التي أحضر مكوناتها من السوق ليخبرهم بالجديد في الأسعار، وكذلك ينقل كثيرا من الأخبار التي تجري هنا وهناك.
وبعد تنقل السوق بين أكثر من موقع، تم اختيار الموقع المجاور لقرية المفتاحة التشكيلية لإنشاء سوق الثلاثاء الشعبي الجديد في مدينة أبها. وبعد استكماله من جميع جوانبه تم افتتاحه يوم الثلاثاء السابع من شهر جمادى الآخرة عام 1416هـ، على شكل بيضاوي مقسم إلى ممرات للمشاة، وبسطات مفتوحة يقدر عددها بـ 99 بسطة، ومحال تجارية تقدر بنحو 100 محل.
نشاط السوق
للسوق نشاط دائم لأصحاب المحال التجارية الثابتة ويمارسون تلك المهنة بصفة يومية مستمرة، مثل بيع الأقمشة والقهوة والهيل والزنجبيل والعطور وغيرها من الحاجات الضرورية. ويشتمل السوق أيضاً على المواشي بجميع أنواعها، والمصنوعات اليدوية، وأدوات الحرث والري، وشداد الحيوانات، والمصنوعات الخشبية مثل الأجهزة الأساسية في الحرث والصناعة، والمصنوعات الجلدية، والحديدية، والنباتات العطرية كالريحان والشيح والنعناع والكادي، والسمن البلدي، والقطران، والموافي، كما أن للسوق دورا اقتصاديا مهما في تنشيط الحياة الاقتصادية والسياحية في المنطقة؛ فالسياح يتوافدون لشراء مستلزماتهم الحياتية والنماذج الجمالية المصنوعة محليا كالطفشة والحلي من الفضة، وكذا الأدوات التقليدية، وهناك مبيعات خاصة بالنساء، حيث يتوافد عدد منهن لبيع بعض الملابس والمشغولات والتراثيات الخفيفة، وكذلك النباتات العطرية التي يقمن بإعدادها.
ذكريات جميلة
ويحمل كبار السن ممن عاصر سوق الثلوث قبل أكثر من 50 عاما كثيرا من الذكريات، حيث يؤكدون أن هناك بعض السيارات التي ترد للسوق ولكنها قليلة جدا ونادرة، كما أن من يصل للسوق من أماكن بعيدة كان يحتاج للأكل لدى بعض النساء اللواتي كن يقدمن الوجبات الشعبية أمام بعض الدكاكين الخاصة بهن تعويضا عن المطاعم اليوم.
دكاكين السوق متراصة على شكل مربع، تطل على ميدان واسع، يمرح فيه المتسوقون، وتشم فيه روائح الأشجار العطرية، والهيل والبن، والرياحين.
مآرب أخرى
في السوق، كانت تنفذ الأحكام الشرعية من قصاص وقطع اليد وجلد، وتعلن الأوامر والقرارات الحكومية، فكان يوما مشهودا تظل ذكراه عالقة بنفوس مرتاديه حتى الأسبوع الذي يليه. واللافت أن أهالي المدينة كانوا يفتحون أبوابها للمتسوقين الآتين من القرى ويقومون بواجب الضيافة حيث لا فنادق ولا مطاعم، لكنها الشهامة العربية.
النساء يجتمعن
سوق الثلوث هو المكان الذي يمكنك أن ترى فيه النساء أكثر من أي مكان آخر، وأنماطا من الزينة فيما يبعنه ويشترينه، فهناك كثير من النساء التهاميات في عسير يأتين من بطون الأودية إلى أعالي جبال أبها للوصول إلى السوق بأغطية الرأس المميزة، وتيجان الورد والريحان التي تكلل الرؤوس وذلك لشراء مبيعاتهن، كون البعض منهن تخصصن في بيع النباتات العطرية التي تجد رواجا كبيرا، خاصة في تهامة عسير كونها ما زالت تستخدم فيها الأطواق النباتية على الهامات في حفاظ على الموروث والعادات والتقاليد في المنطقة.
وفي عمل جماعي شارك الرجل المرأة العسيرية في هذا السوق منذ القدم، وكانت يدا مساهمة في اقتصادات عسير وسط هذه الأسواق، ففي سوق الثلاثاء تقوم النساء أيضا بنظم القلائد والعقود المصنوعة من الأحجار الكريمة كالعقيق اليمني والظفار، ومنها العقود المصنوعة من قطع الفضة القديمة أو الحديثة، وهن يتوارثن المهنة أما عن جدة، ويقمن بعد حبات العقود والقلائد حسب الطلب، ليتفاوت سعر القلادة ما بين 200 و500 ريال، حيث تفضل النساء الحلي المصنوعة يدويا، وخصوصا المصوغة من الفضة، وهكذا يكون السوق وجهة رائعة للعائلة، تستنطق فيها الذكريات التي شهدها على مدار عشرات الأعوام.