Author

بين مستهلك الطاقة ومُصدرها

|
ربما أن كثيرين من الجيل الحاضر يعتقدون أن التعدين، أو الثروة المعدنية بوجه عام، سوف تكون خلال السنوات المقبلة بالنسبة لدخلنا واقتصادنا بمنزلة وريث للبترول، من حيث حجم وسهولة الدخل. فلا مقارنة هناك بين مصدر متميز في توليد الطاقة على مدى قرون وبين مصدر مستهلك بشراهة شديدة للطاقة. فإلى جانب كون البترول ومشتقاته من أهم مقومات الحياة البشرية اليوم على وجه الأرض، نجده أيضا يسهم في إمداد الجانب الصناعي بمواد أولية تعطي ما لا يعد ولا يحصى من المنتجات الاستهلاكية التي لا تخطئها العين. بل لا نبالغ إذا قلنا إن نسبة كبيرة من جميع ما حولنا ونحن جالسون في بيوتنا أو سائرون على الأرض أو محلقون في عنان السماء، مصدره المشتقات البترولية. فالبترول والمعادن الفلزية كلها هبة من الله للبشرية. ولكن فضل البترول، بمميزاته وضخامة كمياته وفوائده الطاقوية والصناعية تضعه في مرتبة أعلى بكثير عن بقية المعادن. ناهيك عن سهولة نقله ومناولته واستخدامه، بعد أن توافرت له على مر السنين بنية تحتية مستديمة. والمملكة السعودية تمتلك ولله الحمد كميات كبيرة نسبيا ومتعددة من المعادن المختلفة. وعلى وجه العموم، فمن المعادن الرئيسة، الذهب والفوسفات والبوكسايت والنحاس والحديد والزنك والماجنزايت، وأنواع أخرى. كما لا ننسى الكميات الهائلة من رمال السليكا التي تنتظر المستثمرين الجادين. وقد اهتمت الدولة بموضوع التعدين على أمل أن يكون دخله رافدا من روافد دخل البترول. وبما أن العمل على استغلال المعادن بدأ متأخرا، إذا قورن بزمن اكتشاف البترول، فمن المتوقع أن تدوم عمليات التعدين إلى ما بعد نضوب البترول. ولكن الدخل من التعدين، كما ذكرنا سلفا، لن يكون في مستوى دخل البترول. وقد تم في عام 1997 إنشاء شركة التعدين العربية السعودية "معادن"، وهي شركة مساهمة محليا، لتتولى عمليات جميع ما يتعلق بتعدين وتسويق وصناعة المعادن في المملكة. وقد تتطلب المصلحة العامة مستقبلا رفع مستوى المسؤولية إلى وزارة مستقلة للتعدين. والتعدين في معظم الأحوال عملية شاقة وتتطلب كثيرا من المياه النادرة في صحرائنا. كما تحتاج منتجاتها إلى وسائل نقل خاصة من المناجم أو موقع العمل إلى موانئ التصدير، والأفضل أن يكون النقل بواسطة السكك الحديدية المكلفة. وفي الغالب يتم تسويق المنتَج بالطن وكمادة خام. ومن المكاسب إذا استطعنا توطين نسبة كبيرة من وظائف عمليات التعدين، رغم كون العمل شاقا وفي أماكن قد تكون نائية. وهذا يتطلب مجهودا خاصا من المسؤولين وترغيبا حقيقيا للشباب الذين يفتخرون بخدمة أمتهم ووطنهم وأنفسهم. وليكن معلوما، أن القصد من هذا الحديث ليس التقليل من أهمية استغلال المواد المعدنية واستخراجها من مراقدها وأماكن وجودها وفرص الاستثمار في هذه الثروة الوطنية الغالية. بل إنه مجرد لفت نظر إلى طبيعة التعدين وما سوف نكسب من صافي المردود. فقد تعودنا على الدخل الكبير من البترول بجهد بسيط. بينما نتوقع أن يكون دخل عمليات التعدين أقل نسبيا، قياسا على البترول، وحري بنا ألا نفاجأ بذلك. وقد بدأت شركة معادن حديثا في عمليات تعدين الفوسفات والبوكسايت في شمال المملكة لسببين. الأول سهولة العملية وضخامة المحصول. والسبب الثاني قابلية هذين المنتجين للتصنيع الجزئي محليا. وقد تطلب المشروعان بناء قاعدة أساسية وبنية تحتية، تشمل سككا حديدية خاصة بالمشروع لنقل المواد الخام من حزم الجلاميد والمناطق المجاورة إلى ميناء رأس الخير على الساحل الشرقي، قرب مدينة الجبيل. ومن أهم المرافق الصناعية التي أسست مع بزوغ نور هذا المشروع الوطني القيم إنشاء مدينة "وعد" الشمال. وهذا يذكرنا بأمر مهم، لا نخاله يغيب عن بال المسؤولين، وهو الأخذ في الاعتبار العمر الافتراضي للمنشآت الصناعية التي يؤمل منها البقاء أطول مدة زمنية ممكنة. وهذا يحتم علينا تقدير الكميات التي بالإمكان استخراجها، أو كمية الاحتياطي الثابت وجوده في المواقع المطلوب تطويرها ومن ثم تحديد كميات الإنتاج حيث تظل عند مستوى معين بسنوات طويلة لا تقل عن 60 إلى 70 سنة أو أكثر. لماذا؟ لأننا لو أنتجنا أكبر كمية ممكنة وبنينا مرافق وبنية تحتية مكلفة وانتهى الاحتياطي بسرعة، لكنا قد خسرنا قسما كبيرا من عمر المنشأة. وقد يكون ذلك أيضا مرتبطا بمرافق سكنية وعملية توطين اجتماعي. فيجب أن تكون دراسة الجدوى الاقتصادية للمنشآت المتعلقة بعمليات التعدين الرئيسة ذات هدف وطني يساعد على التوطين المستديم، ولا يكون كما حدث "للقولد رش في أمريكا". وهو الاندفاع الكبير في كاليفورنيا عام 1850 للبحث عن الذهب، الذي لم يدم إلا سنوات قليلة ثم انتهى.
إنشرها