القيادة الإدارية .. في مدرسة غازي مدني

ينحدر البروفيسور غازي بن عبيد مدني -طيب الله ثراه - من بيت علم ونور ومعرفة، وتخرج في هذا البيت العريق مجموعة من الكفاءات الوطنية التي أثرت الحياة العلمية والعملية في شتى حقول الإدارة والمعرفة بمملكتنا الفتية.
إن الشقيقين أمين مدني وعبيد مدني من الأدباء والمؤرخين البارزين الذين تركوا أعمالا فكرية أثرت حياتنا الفكرية والأدبية، كما أن الجيل الثاني من بيت المدني في طيبة الطيبة قدم للحياة العامة في المملكة العربية السعودية مجموعة من الكفاءات والمواهب التي أسهمت في البناء والتنمية في مجالات مختلفة أهمها مجال التربية والتعليم ومجال الدبلوماسية والتنوير والإعلام.
إن لبيت مدني دورا مميزا في بناء الحركة الفكرية والصحافية في البواكير الأولى من تاريخ الصحافة السعودية، حيث أسهم كل من عبيد مدني وأمين مدني في تأسيس صحيفة "المدينة المنورة" في الثلاثينيات الميلادية كأول صحيفة تصدر في المدينة المنورة، وثاني صحيفة تصدر في المملكة، ومن هذا البيت العريق من خدم الإعلام السعودي خدمة جليلة واعتلى أعلى المناصب، وهو إياد مدني وزير الإعلام الأسبق، كذلك من هذا البيت العريق من خدم الدبلوماسية السعودية وهو الدكتور نزار مدني وزير الدولة للشؤون الخارجية.
كذلك من أهم الذين تخرجوا في بيت مدني في طيبة الطيبة البروفيسور غازي بن عبيد مدني الذي وافته المنية في الأسبوع الماضي، وكان البروفيسور من أبرز علماء المالية العامة في المؤسسات الأكاديمية السعودية وعلى مستوى عالمنا العربي، كذلك كان غازي بن عبيد مدني صاحب نظرية (القيادة بالمشاركة) حيث كان يضع قواعد العمل ثم يحفز كل العاملين معه للمساهمة ــ كل من موقعه ــ في تنفيذ المشروع المطروح للإنجاز.
والواقع أن البروفيسور غازي بن عبيد مدني اضطلع بعديد من المناصب القيادية منها أنه كان عميدا لكلية الاقتصاد والإدارة في جامعة الملك عبد العزيز، وعضوا في مجلس إدارة "سابك"، وعضوا في مجلس مكة المكرمة، ثم تولى البروفيسور غازي مدني - يرحمه الله - إدارة جامعة الملك عبد العزيز ومجلس إدارة مؤسسة المدينة للصحافة والنشر، وأبلى فيهما بلاء حسنا واستطاع بحكمة وألمعية أن يخرج من نفق الأزمة إلى منصات الانطلاق نحو الإصلاح والبناء.
التجربة الأولى حينما صدرت الإرادة الملكية في عام 1995 بتعيينه مديرا لجامعة الملك عبد العزيز بجدة، وكان الرجل المناسب في المكان والوقت المناسبين، وكانت الجامعة في ذلك التاريخ تواجه الكثير من المشاكل، ولكنه كالعادة استخدم نظريته في القيادة الإدارية (القيادة بالمشاركة) وتجاوز كل العقبات ثم بدأ مسيرة الإصلاح ثم النهوض والبناء، وما زالت الجامعة تسير على القواعد الإدارية والقيادية التي وضعتها وصممتها مدرسة غازي مدني.
ومن الجامعة واصل غازي مدني مسيرته القيادية الناجحة حينما انتخبته الجمعية العمومية لمؤسسة المدينة للصحافة والنشر ليكون رئيسا لمجلس إدارة المؤسسة، وجاء تسلمه هذا المنصب الرفيع حينما كانت المؤسسة تعاني أزمة مالية وإدارية حادة، ولكن البروفيسور وضع مبضعه على الأسقام واستطاع أن يعالج أوجاع المؤسسة وينطلق بها إلى محطات الإنقاذ والخروج من النفق المظلم، وما زالت مؤسسة المدينة تعيش حتى اليوم على الخطوط والخطط التي رسمها البروفيسور غازي مدني لتواصل مسيرة الخروج من الأزمة إلى عالم النجاح والإفاقة.
إن منهج غازي مدني في القيادة الإدارية هو المشاركة من القاعدة حتى القمة، وكان يستهدف التأثير في سلوك الجماعة وتنسيق الجهود لبلوغ الأهداف المتوخاة.
واللافت أن البروفيسور غازي مدني كان يميز بين القيادة والرئاسة، فالرئاسة عنده تعتمد على ما يملكه الرئيس من سلطات قانونية نص عليها النظام، بينما القيادة تقوم على اقتناع أفراد التنظيم بالوصفات الإبداعية التي يضعها القائد الملهم للعاملين معه في التنظيم.
ولذلك كان غازي مدني قائدا ولم يكن رئيسا، كان قائدا يقود سفينة البناء والتنظير بعيدا عن الأوامر المباشرة، كانت تروس الماكينة التي يعتمد عليها هي ماكينة العمل الجماعي من أجل خير المجموع.
بمعنى كانت مدرسة غازي مدني تعتمد على قدراته في التأثير في فريق العمل، وتعتمد على العمل الجماعي من أجل خير الجميع، ولذلك كانت القيادة في مدرسة غازي مدني من نوع القيادة الجماعية الفعالة، ولم تكن قط من نوع القيادة الأحادية والفردية.
ونستطيع القول إن القيادة الفعالة التي كان يدير دفتها البروفيسور غازي مدني تعتبر بمنزلة قوة الدفع الرئيسة لتحريك المنظمات إلى الأمام في عالم يتسم بالتعقيد وشدة المنافسة، ولذلك تقع القيادة في المنظمة كالرأس الذكي المتمركز فوق جسم إداري شامخ وفعال.
وفي كل هذا كانت مدرسة غازي مدني ترفع شعار: إن القائد الملهم هم من يدفع موظفيه للعمل بصورة تلقائية انطلاقا من أن المرؤوس هو الأداة الفعالة لنجاح المدير أو القائد.
وفي مدرسة غازي مدني فإن الفعالية في الأداء هي إحدى الصفات التي كان يتمتع بها القائد الفذ غازي مدني سواء في إدارته لجامعة الملك عبد العزيز أو إدارته لمؤسسة المدينة للصحافة والنشر، وفي كلتيهما كان قائدا ينعم بالقدرة على حل المشكلات وتصميم الخطط واتخاذ القرارات واعتماد الاستراتيجيات الفعالة، كذلك كان يتمتع بالثقة بالنفس في التعامل مع كل المواقف أو المشكلات التي تواجهه إيمانا بأن القائد الذي يثق بقدراته يزرع هذه الثقة في مرؤوسيه ويوفر الاستقرار لبيئة العمل، كذلك تعتبر الشجاعة في اتخاذ القرارات إحدى الصفات التي كان يتمتع بها غازي مدني، وكان يبث الحيوية والجدية في كل مستويات العملية الإدارية التي تعمل تحت مظلته، وكانت مدرسة غازي مدني تنطلق من المقولة التي تقول إن القائد الفعال هو الذي يحرك الأحداث أكثر مما تحركه الأحداث، وهو الذي يتمتع بالابتكار ويضع الحلول غير التقليدية، ولا ينتظر حتى يتعرض التنظيم إلى مزيد من التعقيدات.
رحم الله البروفيسور غازي بن عبيد مدني الذي كان يقود عمله ـ في كل المواقع التي تولاها، وفي كل ما أوكل إليه من عمل وأعمال، وكان مثلا أعلى لكل من عمل معه، وعمل في معيته حتى قدم النموذج المثالي للقيادة الإدارية التي أصبحت مادة علمية تدرس لأبنائنا وبناتنا في كل دور العلم والمعرفة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي