Author

البكاء على «التقدم»!

|

كنت قد كتبت قبل سنوات مقالا بعنوان "ليبراليتنا المفقودة"، وأعترف أن ذلك كان خطأ معرفيا ومنهجيا في آن واحد.. فقد تحسرت فيه على تلك الحالة التي كانت سائدة في مدننا وقرانا والمناقبية الأخلاقية، حين كان الحديث بين رجل وامرأة في عرض الطريق لا يثير الريبة والسخط، وكيف أن الرجل عندما يأتي بيت صاحبه، ولا يجده لا تتحرج المرأة من أن ترحب به، وتسأله عن زوجته وأولاده، بل قد تطلب منه التفضل بالدخول للمجلس بانتظار حضور الزوج، مقدمة له القهوة والشاي.
كذلك كان اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق شأنا عاديا، ومثله وجودهم في قيصريات النساء، إلى جانب سلوكيات عفوية أخرى في المناسبات أو فعاليات المرح والثقافة والفن، إلا أن هاتيك وهذه ضربتها غشامة الصحوة بعنف، وأحالت الشك وسوء الظن قاعدة، فتفشت النميمة والغيبة والمكيدة، ودبت المشاحنات وساد الاكفهرار، حتى بين المعارف والأقارب، إلى أن دخلنا في صولات التطرف ثم كارثة الإرهاب.
الخطأ ذاته ما زال يمارس حضوره بيننا، فالبعض، من مختلف مناطق المملكة، ممن كانوا صحويين وتحولوا.. أو ابتعثوا إلى الخارج وعادوا.. أو كانوا مستنيرين في الأصل، ما فتئوا يتباكون بالمقالات ومواقع التواصل الاجتماعي والأحاديث على تلك السلوكيات، مسبغين عليها صفة "التقدم"، مؤكدين من خلال هذه المناحة أننا كنا "متقدمين"!
والواقع أنه، رغم نضارة تلك السلوكيات، فلا علاقة لـ "التقدم" بتلك السلوكيات، بقدر ما يمكن تفسير هذا التوصيف وفهمه من منطلق كونه مجرد ردة فعل على شطط الصحوة، فقد كان موقفها تجاه تلك السلوكيات فظا غليظا، فيما أن تلك السلوكيات لم تكن سوى سياق تقاليد وأعراف عفوية بسيطة مقاربة لـ "الفطرة"، إن لم تكن كذلك، سواء في سماتها القروية الريفية أو في سماتها الصحراوية والجبلية والساحلية، طالعة من رحم واقع أهلنا آنذاك، ولدوا فيها وترعرعوا وعاشوا في نمطها، دون أدنى تساؤل منهم عن مدى علاقتها بالتقدم، فلم يكن ذلك قط واردا في الحسبان.
من المؤكد أننا جميعا تحت وطأة شراسة الصحوة، ارتج علينا ووقعنا في حالة التباس حادة، دفعت بنا إلى قياس ما أصبحنا عليه بناء على ما كنا فيه.. أي مقابلة حالة السماحة والبساطة السابقة بحالة الاكفهرار والتزمت اللاحقة، من خلال حيلة لا شعورية للتعويض عن الفقد والعجز معا، جعلنا نقفز إلى الاستنتاج بتقدمنا.. وهذا بكل تأكيد تقييم غير موضوعي، إذ إن وجود قيم وسلوكيات عفوية ريفية أو قروية شبه "فطرية" بملامح وسمات المجتمعات المتقدمة لا يعني مطلقا "التقدم" بالمعنى الصحيح الصريح لمفهوم التقدم الحديث، فالسلوكيات والقيم لا تكون حضارية حديثة إلا حين تمارس بوعي كحق وموقف ناتجين عن ارتقاء وتطور في سلم الوعي والفكر، فالتشابه في حد ذاته ليس قرينة للتقدم، وإلا فإن هناك على سبيل المثال مناطق في العالم غارقة ليس في "الفطرية" وإنما في البدائية.. في إفريقيا وفي الأمازون وفي الإسكيمو، أو في بعض دول شرق آسيا ممن تتجاوز مظاهر سلوكياتهم الاختلاط وتبادل الحديث إلى انفتاح مفرط، ناهيك عن طقوس ضيافة قد لا تستثني الغرائزية منها أو الزواجات الغرائبية التي تتعدى صرعات الابتذال في الغرب!
وطالما أنه لا يمكن اعتبار مثل هذه المظاهر البدائية مظاهر تقدمية وإنما هي مجرد عادات وتقاليد تلك الشعوب أو الجماعات أو القبائل، فإنه من الموضوعية أيضا القول إن ما كنا عليه من بساطة وسماحة لم يكن إلا تعبيرا عن حالة من الثقة العفوية، شبه فطرية بمظهرها الخاص بها، والمؤثرات الزمنية فيها، مهما كانت تشبه في وجه من الوجوه ما أسفرت عنه مسيرة التقدم من مظاهر.
إنني لن أتطرق هنا إلى المماحكات حول سلبيات التقدم، سواء في الاستخدام القذر للعلم والتقنية أو في الظواهر الاجتماعية الشاذة والجريمة وتدمير البيئة.. فذلكم حديث آخر، إلا أن المقام يقتضي الإشارة إلى أن التقدم سمة أصيلة في مسيرة البشرية، شهدت صورا متباينة منه، لكن مفهوم التقدم، كما يقول الدكتور فهمي جدعان في كتابه "أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث": كان في القديم ذا طابع ميتافزيقي أو انفعالي يعكس الرجاء أو الأمل.. أما العصور الحديثة فقد جعلت هذا المفهوم مفهوما واقعيا لا مجرد انعكاس لأمل أو رجاء مثالي أو خيالي، بل إنني مع تقديري لما قال الدكتور جدعان، أرى أن التقدم بمفهومه الحديث هو حدث تاريخي مكثف ومعقد لا سابق له، تدافع مع الحداثة الغربية التي بدأت مع عصر النهضة الأوروبية حتى بلغ زخمه مع عصر الأنوار في القرن الثامن عشر وما بعده، فأحدث تحولا جذريا في المعارف والسلوكيات والقيم تحت وهج شمس الوعي، وبسيادة العقل النقدي والعلم وصناعة الإنتاج.
وفي ضوء هذا يمكن التعليل: فلم تكن الصحوة التي دهمت سلوكياتنا السابقة حدثا طارئا، إنما رزحت لثلاثة عقود.. وهي لو لم تجد قابلية الاستجابة لما استفحلت، فقد كانت تلك السلوكيات الطيبة هشة لا تملك حصانة واعية للمقاومة، لأنها كانت تصدر عن ذهنية بسيطة لم تكن لتتبين خبث أجندة الصحوة الجهنمية، فلو أن ما كنا عليه يختزن خلفه شحنات وعي مسلح بأسس التقدم الحديث لما استطاعت الصحوة أن تسحب في بساطها الزمن وتقسم العالم إلى فسطاطين، ثم إلى سوق النخاسة وقطع الرؤوس!
من هنا يتضح كم هو خطأ فادح تحميل المظاهر السلوكية والقيم بل المعارف القديمة بمضامين أو مصطلحات حديثة، فضلا عن أن المضاربة بالقول إنه كان بالإمكان أن يرتقي ذلك الواقع بسلوكياته العفوية، وأن يصعد سلم الوعي ليصبح بالفعل "تقدما"، لو تم تحفيزه، ولم يتح للصحوة أن تنهشه، هو قول لا طائل من ورائه وخارج التاريخ.. فليس في التاريخ "لو"، إنما ما كان أو سيكون!

إنشرها