هل تتحول الزمالات المهنية إلى ظاهرة سلبية؟

هل يمكننا القول إن النمو في عدد المهتمين بالشهادات المهنية والحاصلين عليها قد يتحول إلى ظاهرة سلبية؟ أو قد يتم تصويره على أنه ظاهرة سلبية؟ هذا على غرار ما يتم تداوله من وقت إلى آخر حول حملة شهادات الدكتوراه الذين لا يقدمون حسب نظرة البعض القيمة التي يجب أن يقدموها، أو مثل المدربين العالميين الذين ضجت بهم صحفنا ومؤسساتنا ثم بدأوا في التواري في السنوات الأخيرة. خسارة كبيرة حين تتحول الجهود المبذولة إلى إنجازات بلا قيمة حقيقية، هي خسارة حتى عندما ينتشر الاعتقاد بذلك على الرغم من أنه قد يكون مجرد تصور لا أساس له من الصحة، وبالطبع هي خسارة كبرى عندما نكتشف أن الإنجاز مجرد وهم ورقي وغش لا قيمة له على الإطلاق. أعتقد أن الشهادات المهنية المعتبرة تملك مناعة أقوى من غيرها من وسائل التأهيل المعرفي والمهاري، ولكن هذا لا يجعلها في حرز طبيعي، حيث إن التهاون في التعاطي معها قد يحولها إلى مجرد موجة جديدة سرعان ما تفقد زخمها وربما تتأثر سلبا بجناية غيرها من البرامج والأفراد.
احتفلت الجمعية السعودية للمحللين الماليين المعتمدين قبل يومين بدفعة جديدة من السعوديين الحاصلين على شهادة المحلل المالي المعتمد CFA. نمت أعداد الحاصلين على هذه الشهادة العالمية المرموقة بشكل كبير جدا خلال السنوات الأخيرة، وأعتقد أن روادها الأوائل وأعضاء الجمعية الذين يعملون على نشر وترويج هذا القدر من التميز يستحقون الشكر. وهذا الأمر ينطبق كذلك على زمالة الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين، المعروفة بتميزها على المستوى العربي، إذ تحتفل بعد كل دورة بحصول عدد من الشباب والفتيات المؤهلين على زمالتها. أعتقد أن مشهد الشهادات المهنية المالية أفضل بكثير من بعض المجالات الأخرى، فهذا التميز والنمو يحصل كذلك على المستوى المحلي لشهادات عالمية معتبرة مثل شهادة المحاسب الإداري CMA وشهادة المراجع الداخلي المعتمد CIA وينال تقدير السوق المحلية واهتمام الباحثين عن الكفاءات. إلى جانب الشهادات المالية، تحضر شهادات متخصصة أخرى إدارية وهندسية بمستويات متفاوتة وباهتمام متفاوت.
تتميز الشهادات المهنية التي تستحق الانتشار بعدة سمات تجعلها أقوى حضورا وأكثر قدرة على الاستمرارية كمؤشرات محترمة تدل على التأهيل المهني الشخصي المتخصص. أولى هذه السمات هي متطلبات الإعداد والتحضير التي تثبت انضباط وجَلَد المتقدم لاختباراتها. وتتميز كذلك باهتمامها بالمتطلبات المستمرة التي تحافظ على حيوية الحاصلين على شهاداتها، مثل: التعليم المستمر، وشرط الممارسة، والتفاعل الدائم مع المجتمع المهني. كذلك تتميز هذه الأنشطة التأهيلية المقننة بأنها مؤطرة ومحددة بشروط وآليات واضحة لا تقبل الاستثناءات ولا المجاملات ولا توجد طرق مختصرة أو بديلة للحصول عليها. هي تكتسب قوتها بناء على المصداقية والسمعة التي تبنيها في المجتمعات الممارسة لها والمستفيدة منها، لذا لن تتردد على الأرجح في التخلص من الأعضاء الذين لا يتمكنون من تمثيل قيمها ومعاييرها بالشكل المحدد في رؤيتها ودستورها.
على الرغم من المناعة الطبيعية التي تملكها الشهادات المهنية التي تحميها من التحول إلى ظاهرة سلبية، إلا أنها قد تتأثر سلبا بعدة أمور. على رأس هذه الأمور يأتي التباعد بين هذه الانتماءات المهنية المميزة ــــ والمهمة جدا لواقعنا الاقتصادي والمهني ــــ وبين القيمة المرجوة منها. قد يعود هذا التباعد السلبي بسبب ممارسات الحاصل على الشهادة أو الزمالة، أو بسبب واقع الجهة المهنية المسؤولة عنه، أو بسبب درجة وعي المستفيد من خدمات الشخص المؤهل والجهة التي ينتمي إليها. في نهاية الأمر، يُناط الأمر بالشخص الحاصل على الزمالة لأنه هو الذي يمثل الجهة المهنية التي ينتسب إليها والتي يملك القدرة على تطويرها ودعمها متى ما استدعى الأمر، ولديه كذلك مسؤولية تجاه الآخرين بالتوعية والتثقيف. على الحاصل على الزمالة أن يهتم كذلك بالمظهر كما يهتم بالجوهر، فيحرص على التعلم "الحقيقي" المستمر وليس حضور الدورات لتجميع الساعات التدريبية. وفي الوقت نفسه عليه أن يعكس الصورة المهنية أمام الآخرين بسلوكياته فلا يظن أن الانتماء المهني وسام يتمخطر به في كل مناسبة مستدعيا اتهامات الغرور، ولا يبتذل في تصرفاته مدمرا مكانة مجتمعه المهني الذي ينتمي إليه.
من المهم أن ندعم برامج التأهيل والانتماء المهني المحترمة، التي ترتبط أو تستسقي ممارساتها من التجارب العالمية وتصب فوائدها في المجتمع بطريقة مباشرة. وهذا يعني أن يبتعد المهنيون عن تصوير غيرها من برامج التأهيل الأخرى بما لا تستحق. ليس من العدل أن يعتمد مسمى ورشة عمل تستمر لمدة ثلاثة أيام "ممارس معتمد" في مجال ما، بينما في المجال نفسه هناك شهادة مهنية بالمسمى نفسه تتطلب ثلاث سنوات من الإعداد والتحضير والاختبار والممارسة. الخلط لغرض الاستغلال وحصد المكاسب الشخصية السريعة هو ما يصنع التشوه للمبادرات الجيدة، وهو في رأيي أمر يستحق الإنكار الشديد. كل مهنة تعمل بطريقة مستقلة لصنع قيمتها أمام الآخرين، ولكن يظل المنتسبون لها هم من يحدد مقدار الثقة والمكاسب القابلة للتحقيق بحضورهم المهني الإيجابي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي