Author

جدة التاريخية .. في عيون الفنانين والرحالة العالميين

|
كانت الجزيرة العربية والخليج العربي منذ القرن الـ16 حتى القرن الـ 20، أي ما ينوف على الخمسة قرون قبلة للرحالة الغربيين والشرقيين، وكانت قوافل الرحالة تزور منطقة الجزيرة العربية والخليج مع اختلاف الأغراض والأسباب، ولكن يبدو أن الرحلات في بداياتها كانت تنظم لأسباب تبشيرية أو لأسباب مخابراتية، وقليلا منها لأسباب علمية. في هذه المقالة نتناول رحلات مجموعة من كبار الرحالة الغربيين والشرقيين إلى منطقة الحجاز بصورة عامة، وإلى جدة التاريخية بصورة خاصة. في البداية يجب أن نوضح أن ذلك النوع من الرحلات لم يعد موجودا في القرن الـ21، إذ إن المعلومات عن الجزيرة العربية أصبحت هي التي تذهب إلى مريديها في كل مكان من العالم عبر وسائل التقنية الحديثة، ولم تعد هناك حاجة كي يقوم الغربيون أو الشرقيون برحلات إلى الجزيرة العربية لجمع المعلومات، لذلك لم يعد مصطلح (الرحالة) يتناسب مع طبيعة الارتحال الذي لم يعد ارتحالا بالمفهوم السابق، بل هو في الحقيقة زيارات خاطفة لرجال الأعمال والمستثمرين الغربيين لمنطقة شبه الجزيرة والخليج العربي التي حباها الله بالثروة البترولية طوال القرن الـ20. ومنذ بداية هذا القرن تحول الرحالة الغربيون إلى رجال أعمال يستهدفون الاستثمار في منطقة أصبحت من أغنى المناطق الاقتصادية في العالم، كما تحول الرحالة الغربيون - إذا جاز التعبير- إلى سياح يزورون هذه المناطق الأثرية الثرية التي تكتنز بآثار عديد من الحضارات الغابرة بصورة عامة والحضارة الإسلامية على وجه الخصوص. ورغم أن كريستين نيبور الرحالة الدنماركي من أوائل من وصل إلى جدة، التي وصلها عام 1762م، إلا أن رحلة شارل ديديه إلى الحجاز كانت من أهم الرحلات التي قام بها الرحالة الغربيون إلى منطقة الحجاز. وشارل ديديه فرنسي من أصل سويسري، عشق الأدب والشعر وعلم النبات والتاريخ والرحلات، واشتغل بالصحافة وصدرت له عدة دواوين شعرية. قام شارل ديديه بزيارته إلى الحجاز وألف كتابا بعنوان "رحلة إلى الحجاز". يتطرق الكتاب إلى الحديث عن كثير من مظاهر مدينة جدة التاريخية، ثم زار الطائف وشملها بالحديث، كما تحدث شارل ديديه في استفاضة عن مكة المكرمة، ولكن قبل أن يتحدث عن المدن الحجازية الثلاث أفاض في الحديث عن المناطق التي زارها وهو في طريقه إلى الحجاز مثل صحراء السويس والطور وسيناء والبحر الأحمر، حتى ختم كتابه بموضوع حمل عنوان "مغادرة جدة". وفي جدة استعرض ديديه مواهبه الفكرية وكتب عن مجمل ما كسب من هذه الرحلة الثرية على حد قوله. ويغلب على فكر ديديه في كتبه التي تحدث فيها عن رحلاته إلى بلاد العرب أحاديثه عن عبقرية الإنسان أكثر من أحاديثه عن عبقرية المكان والعمران، ولقد حاول ديديه أن يبعد عن نفسه التهم التي كثيرا ما يوصم بها الرحالة الغربيون، ومن هذه التهم أن رحلاتهم استخباراتية وذات أهداف سياسية تستهدف معرفة حجم تغلغل الحكم العثماني في المنطقة. ويأتي الرحالة وليم بلجريف في المكانة الثانية بالنسبة للرحالة الغربيين الذين ارتحلوا إلى منطقة الحجاز حيث وصل إلى منطقة الحجاز عام 1865 وألف كتابه الموسوم بـ"قصة رحلة عام عبر وسط الجزيرة العربية وشرقها"، ويتميز هذا الكتاب بأنه كتاب يقدم مؤلفه كمثقف وصاحب معارف عديدة، وهو بالفعل كتاب معارف وثقافات وسياسة واجتماع ودين ودنيا. وبلجريف رحالة بريطاني لم يخف رغبته في أنه يسعى إلى نشر المسيحية في ربوع العالم العربي، ولذلك ذهب إلى لبنان وأقام في زحلة فترة من الوقت ودرس العربية بعمق حتى أتقنها، واستطاع بلجريف أثناء إقامته في لبنان أن يتوغل في المجتمع اللبناني، ويبدو أن بلجريف له علاقة بالمخابرات الغربية حيث كان على تواصل مع الشخصيات الغربية المهمة في المنطقة العربية، ومن بينهم فرديناند دي لسبس صاحب فكرة بناء قناة السويس. ولم يكتف بلجريف بتأليف كتاب عن الجزيرة العربية بل كان كتابه "قصة رحلة عام عبر وسط الجزيرة العربية وشرقها" الذي صدر في مجلدين من الكتب المهمة التي صدرت عن مجتمع الجزيرة العربية في تلك المرحلة، وبذلك أصبحت كتب بلجريف عن مجتمع الجزيرة العربية من أهم المراجع التي كان يرجع إليها الدارسون والباحثون في شأن جزيرة العرب وأهلها. ولكن الغريب بالنسبة إلى هذا الرحالة المثير للجدل أنه تعرض لاتهامات من بعض الرحالة الغربيين زعمت أن بلجريف لم يقم برحلاته في وسط وشرق الجزيرة العربية وأن كتبه مجرد تجليات أدبية من أديب موهوب حلق في خيالات الفكر والكتابة، ومن أبرز الذين اتهموه بالكذب الرحالة المشهور جون فيلبي، ولكن في مواجهة هذه الحملة ضد بلجريف نهض شيوخ الرحالة الأوربيون وصادقوا على رحلات بلجريف إلى جزيرة العرب، وأشادوا بفكره المستنير. ومن أمثال شيوخ الرحالة الأوروبيين داوتي وبلنت اللذان اعتبرا كل القصص التي أوردها بلجريف صحيحة، ويزيد عليهما لورانس فيضع بلجريف في مصاف فيلبي وتوماس، بل إن جاكلين بيرين في كتابها "اكتشاف جزيرة العرب .. خمسة قرون من المغامرة" أشادت بكتب بلجريف، وقالت إن كتب بلجريف إضافة مهمة لأدب الرحلات. ويعتبر الرحالة البريطاني جون فيلبي أكثر الرحالة الذين قاموا بأعمال فكرية جليلة، وعبدالله فيلبي ألف عن المناطق الأثرية في المملكة وخص جدة بكثير من المقالات ومن كتبه الثرية "الربع الخالي، أيام عربية، قلب الجزيرة العربية، أرض مدين، بعثة إلى نجد، أربعون عاما في البرية". وكان فيلبي على علاقة طيبة مع الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، وفي أيامه الأخيرة أعلن إسلامه وغير اسمه إلى عبدالله فيلبي، بل أقام في جدة وأسس مكتبه التجاري فيها، وظل يعيش فيها ولم يبرحها حتى وفاته، وما زال بيته في جدة في حوزة ورثة فيلبي. كذلك من القامات الكبيرة التي كتبت عن جدة الروائي الفرنسي الكبير فيكتور هوجو في مؤلفه المعروف باسم "الأرز"، كما أن جدة الموحية أوحت إلى الموسيقار المعروف أنطونيو بيرناردي سيمفونيته الشهيرة "سوناتا" التي عزفها على البيانو باسم جدة. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى وردت مدينة جدة كثيرا في كتب الرحالة العرب والأجانب، فقد وصفها محمد بن أحمد البشاري المقدسي في القرن الرابع الهجري في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" بأنها مدينة حصينة عامرة آهلة، أهلها أهل تجارات ويسر، ولهم فيها قصور عجيبة وأزقتها مستقيمة ووضعها حسن، ولكنها شديدة الحر جدا في الصيف وأهلها في تعب من شح المياه. وكان تجار جدة على علاقة جيدة مع مصر قبل حفر قناة السويس، وكانوا يخزنون البضائع القادمة من الهند واليمن في السفن التي كانت عبارة عن مخازن عائمة، ثم يصدرونها إلى مصر عبر ميناء السويس. ومن ناحية أخرى فإن الرحالة الفارسي ناصر خسرو الذي كان يهيم بجدة الفاتنة فقد وصف جدة في القرن الخامس الهجري بأنها مدينة جميلة محصورة داخل سورها الحصين، كما لفت الانتباه إلى عدم وجود الأشجار والزرع بها رغم ازدهارها العمراني، وعلل ناصر خسرو ذلك بندرة وجود الماء العذب فيها، وقدر ناصر خسرو عدد سكان مدينة جدة في القرن الخامس الهجري بـ5000 نسمة، ووصف أسواقها بأنها نظيفة جدا ولها بابان مما يلي مكة، وباب البحر، وكان أميرها تابعا لأمير مكة الذي تمتد سلطاته حتى المدينة المنورة. أما الرحالة الأندلسي الشهير أبو جبير فقد جاء جدة وهي في ضنك، ولذلك وصفها بما يخالف وصف من سبقه من الرحالة، فقال إن عمارتها الضخمة تحول أكثرها إلى خصاص، أما أهلها الذين وصفوا بالثراء وكثرة المال فيصفهم بأنهم يستخدمون أنفسهم في كل مهنة لتحصيل لقمة العيش حتى ولو كانت المهن من المهن الوضيعة، فكان منهم من يكري الجمال، ومنهم من يبيع اللبن أو الماء للحجاج، وإذا لم يكن لأحدهم شيء مما ذكر فهو يلتقط التمر من الشوارع أو يحتطب الحطب من ضواحي البلد ويبيع ما جمع، وربما تناولت نساؤهم الشريفات ذلك بأنفسهن. كذلك فعل الرحالة الشهير ابن بطوطة الذي قدم إلى الحج في القرن الثامن الهجري ووصف جدة بما يشبه وصف ابن جبير فقال إن سكان جدة قليلون جدا حيث لا يجتمع النصاب لصلاة الجمعة في بعض المساجد، وهي مبالغة من ابن بطوطة غير مقبولة، مهما قل عدد سكان جدة، ولكن ابن بطوطة لم يتجاهل مباني جدة وأسواقها وحواريها، بل ذكرها وأشاد بها على استحياء.
إنشرها