الجهل نور والعلم ظلام
لقد قمت بتحوير عبارة شهيرة يرددها الناس كثيرا. العبارة ترد هكذا: "العلم نور والجهل ظلام".
ولكن كيف يصبح العلم ظلاما والجهل نورا؟
قبل الشروع في تحليل عنوان المقال هذا الذي ربما أتى عكس توقعات قرائي الكرام، دعني أولا أعرّف معنى مفردة "الجهل" ومفردة "العلم" لأغراض الشرح والتفسير.
واحد من معاني "الجهل" الأساسية في لغة الضاد عدم الدراية أو المعرفة بما يدور أو التصور أو الاعتقاد بأن الأمر هو هكذا بيد أنه في الواقع على خلاف ما هو عليه.
ومفردة "العلم" لها معنى مهم إضافة إلى أننا في الغالب نستخدمها للإشارة إلى المعرفة أو المعارف بشتى أصنافها. هذا المعنى يشير إلى الحصول على الحقيقة ومعرفة الخبر أو الحدث أو الواقعة أو الموضوع بكل تفاصيله.
والنظرية التي أسوقها لها شقان.
الشق الأول يقول إننا اليوم نعيش عصرا يحاول فيه أصحاب السلطة والجاه والمال ومعهم الأفراد والمؤسسات والشركات ذات التأثير إخفاء كثير من المعلومات والأخبار والحقائق.
والشق الثاني يقول نحن بسطاء الناس نعتقد أن معرفتنا بالأمور والأخبار والوقائع التي بحوزتنا تمثل الواقع كما هو؛ بمعنى آخر أن أصحاب السلطة لا يخفون أي شيء عنا وكل ما يمنحونه لنا من معلومات لا نقصان فيه وليس هناك أشياء لا نعرفها.
المطلوب إثباته تقديم الأدلة والبراهين على أن الشقين اللذين ذكرتهما هما واقع الحال. إن كان الأمر كذلك، يصح تحوير القول المأثور "العلم نور والجهل ظلام" في عالم اليوم إلى "الجهل نور والعلم ظلام" كما أتي في عنوان هذا المقال.
الظلام ما هو إلا عدم المعرفة، والظلام لا يسود من تلقاء نفسه، الظلام تفرضه المؤسسات السلطوية بشتى أصنافها، مدنية أم دينية، المؤسسات تتقن فن وضع الخطط والتكتيكات التي تبقينا في جهل عما تقوم به وتبقيها في معرفة تامة عن جهلنا. بمعنى آخر نحن بسطاء الناس خاسرون في الاتجاهين.
من النادر أن ترى مؤسسة أو صاحب سلطة يكشف الغطاء عن عيوبه وزلاته. في الغالب لا تقدم المؤسسات السلطوية لنفسها وأتباعها والآخرين إلا حسناتها وكيف أنها أفضل من أقرانها.
ويدخل الإعلام المعمعة هذه ويقدم براهين جمة لإثبات النظرية التي أتيت بها.
لاحظ السجال الدائر في أمريكا بين الحزبين الرئيسين (الجمهوري والديمقراطي) اللذين خاضا انتخابات الرئاسة الأخيرة. والإعلام المفروض فيه أن يزيل الغشاوة عن العيون، أي يحارب الجهل ويدعم المعرفة، كما عرفنا المصطلحين أعلاه.
ما يحدث هو أن الإعلام يسهم في زيادة الغشاوة على العيون من خلال اصطفافه الواضح مع طرف ضد آخر. والكل تقريبا في هذا البلد الأقوى والأشرس والأعتى والأغنى والأكثر تأثيرا في الدنيا ينتظر بفارغ الصبر ما يتم تسريبه من أخبار ووقائع وأحداث أخفيت عن الناس البسطاء.
كل يوم تقريبا لنا قصة عما يتم رفع الغطاء عنه، إلى درجة أن بعض المحللين بدأ يسأل إن كنا نحن نعرف أي شيء، أي أننا في ظلام وجهل عما يدور في كواليس السلطة.
والعمل على ألا يعرف الناس، أي يبقوا في جهل عما يدور، واحتكار المعرفة من قبل السلطة، لم يعد ممارسة من اختصاص دولة محددة أو مؤسسة معينة.
هذه ظاهرة عامة، متوافرة في كل المؤسسات ويطبقها كل أصحاب الشأن ولا أظن أن هناك استثناءات لأنه حتى المؤسسات التي تقول إنها تتبع نصوصا نزلت من السماء تتعمد فرض الجهل على الناس من خلال احتكار المعرفة أو إخفائها عنهم.
اليوم صرنا في شك من أمرنا بعد ما تم تسريبه بين الفينة والأخرى من أسرار على كل المستويات. المؤسسات والقيمون على هذه المؤسسات الذين منحناهم ثقتنا وبعضهم يدعي أنه يساير نصوصا يراها مقدسة، يعلمون اليوم أن الخطط التي تمكنهم من فرض الجهل على الناس وإبقاء المعرفة ضمن حلقاتهم الضيقة صارت سلاحا دونه قد يفقدون السيطرة ويخسرون الجاه والمكانة. وصرنا في فوضى، لا نستطيع فيها التميز بين الحنطة والزوان وفرز الغث من السمين والخبيث من الطيب.
المؤسسات وأصحابها لا يريدون زبائنهم -المواطنين بصورة عامة- أن يعرفوا الحقيقة. "العلم" بالمفهوم الذي ذكرناه يهدد مصالحهم ويؤذي مكانتهم. "الجهل" على مستوى الزبائن، يزيد في الولاء والطاعة.
ولهذا نرى كيف أن المؤسسات تنفق أموالا طائلة للحفاظ على سرية "العلم" الذي لديها، وكذلك تدعم دون حدود ودون وخز ضمير الإبقاء على "جهل" الناس بما تقوم به وما تخزنه من علم.
لا أعلم في ماذا سيفكر القارئ الكريم بعد قراءته رسالة هذا الأسبوع، إلا أنني آمل أن أكون قد قدمت دليلا على النظرية التي أتيت بها وبإمكاني تسميتها "نظرية الجهل" التي فيها يصبح العلم ظلاما والجهل نورا.