سحر الأرقام .. هكذا تكلم الخوارزمي
لا بد أنك استعنت بالأرقام للعثور على صفحة هذا المقال، وقد يحدث ذلك عند شراء الجريدة أو ربما حين تركيب شفرة الحاسوب لقراءتها على النت... عديدة هي الأفعال التي نستجدي فيها الأرقام كل حين، دون السؤال عن أصلها أو التفكير في جذور علم الأعداد أو تاريخ الرياضيات. ولا نبالغ إذا قلنا بأن بعضنا نسي مادة الحساب اسمها منذ مغادرته فصول الدراسة، حتى وإن كانت حياته اليومية قائمة في تعاملاته على أمهات قواعد علم الحساب.
ينبغي الاعتراف بدءا بأن تاريخ الرياضيات يمتد لأربعة آلاف سنة مضت على الأقل، وله حضور معين في كل الحضارات والثقافات. ولم تتردد جاكلين ستيدال Jacqueline Stedall في مقدمتها القصيرة عن تاريخ الرياضيات، في وصفه؛ بقولها: "إنه أشبه ما يكون بتاريخ أحجار متفرقة تبرز على صفحة نهر عديم الملامح".
لكن قلة من الباحثين فقط من اهتموا بكشف ثراء وتنوع النشاط الرياضي على مدار التاريخ الإنساني. فلا خلاف في أن الرياضيات موضوع تاريخي متأصل مقارنة مع ربائبها من المعارف العلمية، فأول عمل رئيس في مجال الفيزياء كان مبادئ نيوتن، التي تعود إلى 300 سنة ونيف. أما في علم الأحياء الناشئ، فكان كتاب داروين "أصل الأنواع" الذي يظهر قبل 150 عاما فقط. بينما يعود أول كتاب في الرياضيات، وفق كيت فاين، والمتمثل في "العناصر" لأقليديس إلى نحو 2400 سنة خلت. تظل اللحظة الأولى التي بدأ فيها الإنسان نشاطا ذهنيا مرتبطا بالحساب أو التعداد محط اختلاف بين معظم المؤرخين لعالم الأرقام، فالكلمة الإغريقية mathemata؛ التي اشتقت منها الكلمة الحديثة mathematics وشبيهاتها في اللغات الأوروبية، تعني ببساطة ما جرى تعلمه. قد يصاب أولئك الذين تصورا أن الرياضيات بدأت مع فيثاغورس، ببعض الارتباك حين يكتشفون أن الرياضيات المعقدة بدأت ممارستها قبل ما يزيد على ألف عام من وقت فيتاغورس عند المصريين والبابليين في الألف الأولى والثانية قبل الميلاد. ثم إن حياة ومسيرة فيثاغورس، الذي يقدم كأب مؤسس لهذا الحقل العلمي، طُمرت تحت غطاء من الأساطير والخرافات، فلا وجود لنصوص كتبها بنفسه أو أحد تابعيه المباشرين. تعود أقدم قصص حياته إلى القرن الثالث بعد الميلاد؛ أي بعد نحو 800 سنة من زمن حياته. حقا إن فيثاغورس شخصية أسطورية يعزى إليها الكثير، لكن حقيقة لا يعرف عنه سوى القليل.
واضح أن تاريخ علم الحساب متقطع، تحيا فيه الأفكار والنظريات بشكل خفي، ولا تظهر إلا عندما يقدم أصحابها جديدا. وهذا هو السبب وراء إطلاق أسماء الرياضيين على النظريات أو التكهنات أو المنشآت؛ فمعظم هؤلاء يعون جيدا أنهم يبنون أعمال من سبقهم. فالقيمة 3,16 للعدد الذي نشير إليه الآن بالرمز π لحساب مساحة الدوائر، يقال أنها تعود للمصريين القدامى، وتقسيم الدائرة إلى 360 درجة له أصول في النظام البابلي الستيني.
لكل ذلك لا غرابة عند سماع مبرهنة فيثاغورس أو برهان أقليدس أو حدسية تانيما-شيمورا التي قدمها رياضيان يابانيان في خمسينيات القرن العشرين، وطريقة كوليفاجن- فلاخ التي طرحها الروسي فيكتور كوليفاجن والألماني ماتياس فلاخ في ثمانينيات القرن العشرين.
في معرض الحديث عن الأعمال التي قدمت لتأريخ الرياضيات نشير إلى أن تركيزها قائم أساسا على أولئك الذين عاشوا في أوروبا، في محاولة لاحتكار حقوق ملكية هذا الحقل المعرفي. دفع اكتشاف مخطوطة كتاب "الحساب" (13 مجلدا) لديوفانتس؛ المكتوبة باللغة الإغريقية عام 1462 في مدينة فينيسيا، البعض إلى للقيام بقفزة تاريخية على محطات كبرى في مسار هذا العلم. لكن للحقيقة رأي آخر، حين تسطع معلنة مساهمة العرب الأساسية في الحساب، بأسماء ثقيلة منها الحرّاني ثابت بن قرة الذي اهتم بأعمال أرخميدس، وكتب تعليقا على كتاب لبطليموس، وقدم برهانا لواحدة من مسلمات أقليدس. وأبو الريحان البيروني الذي طور الرياضيات لتعميق أبحاثه في الفلك والتنجيم، وعمر بن إبراهيم الخيامي المعروف بعمر الخيام، الذي أشرف على المرصد الفلكي لأصفهان. ناهيك عن مؤسس علم الجبر الخوارزمي الذي تبقى له أفضال جمة على تطور هذا الحقل المعرفي.
تفيد بعض المصادر التاريخية بأن الأعداد الهندية المنتشرة في أجزاء من القارة الآسيوية بدايات القرن السابع، وصلت إلى بغداد عام 773 في كتابات فلكية أحضرت للخليفة المنصور. كتب الخوارزمي في عام 825 نصا عن استخدام الأعداد الهندية، فقدت نسخته الأصلية، لكن محتوياته استرجعت من نصوص لاتينية متأخرة.
أوضح فيه صاحب كتاب "الجبر والمقابلة" (860) كيف تكتب الأرقام العشرة، في صورتها العربية وليس السنسكريتية، مع توضيح حريص لقيمة الموضع، والاستخذام الصحيح للصفر، وأتبع هذا بتعليمات للجمع والطرح، والضرب والقسمة، وشيء من تدريس الكسور... ليكون بذلك المؤسس لنمط النصوص الحسابية بعدما كانت عصية على الفهم، فمن بمقدوره أن يستوعب هذا النص الذي تعود كتابته إلى 628 ميلادية "إن ارتفاع جبل مضروبا في أي مضاعف هو المسافة إلى مدينة؛ إنها لا تمحى. وعندما يقسم بالمضاعف ويزاد بمقدار الضعف، فإنه يكون وثبة أحد شخصين يقومان بالرحلة"؟. عرفت الأعداد الهندية-العربية، كما صارت تعرف معه، انتشارها في أوروبا من خلال الجداول الفكلية التي نقلها المسلمون إلى إسبانيا، وترجمت تعليمات استخدامها من العربية إلى اللاتينية، لكن الجداول نفسها لم تترجم؛ فمن عساه يريد تحويل أعمدة من أعداد مكونة من رقمين تقيس الدرجات والدقائق والثواني إلى أعداد رومانية غير ملائمة قطعا (I، II، III، IV، V،...)؟
بحلول القرن الـ 12 ظهرت في شمال أوروبا (فرنسا، وإنجلترا) نصوص لاتينية مساعدة على شرح الأعداد الجديدة، وطرق الحساب المصاحبة لها، بعنوان Dixit Algorismi بمعنى "هكذا تكلم الخوارزمي".
رغم كل التعقيدات والتاريخ الغامض يبقى للأرقام سحرها الخاص ودورها المحوري في حياتنا اليومية.