الصناعة التحويلية في أمريكا تفقد 5 ملايين وظيفة منذ عام 2000

الصناعة التحويلية في أمريكا تفقد 5 ملايين وظيفة منذ عام 2000

الصناعة التحويلية في أمريكا تفقد 5 ملايين وظيفة منذ عام 2000
فني في مصنع محركات جنرال موتورز في توناواندا، القريب من شلالات نياجارا، الذي تولت فيه الروبوتات أعمالا عديدة كان يؤديها البشر.

في ورشة في وسط مدينة بافالو، في ولاية نيويورك، أحد الروبوتات يجلب أمر طلبية من مجموعة مبعثرة من الأوامر. مكونات معدنية مختلطة - شطر من مفصلات أبواب الشاحنات – يلتقطها الجهاز من سلة بعدد متناقص في كل مرة، ثم يبعثرها بشكل عشوائي على حزام ناقل.
تلتقطها الذراع الروبوتية واحدة تلو أخرى، وتنتظر جزءا من الثانية لتقرر برمجياتها ما يجب فعله، ثم تضع العنصر الملتقط بالضبط في موقعه على حامل، بشكل صحيح في كل مرة.
يقول مايكل أولبريخ، رئيس مشاغل التصنيع في بافالو، المجموعة التي تمتلك الروبوت وورشة العمل: "هذه الوظائف من الصعب جدا على الروبوتات أداؤها، لكنها سهلة بالنسبة للبشر. الانتقاء العشوائي من السلال يشكل تحديا صعبا".
مهمتها، بدعم من ولاية نيويورك، مساعدة المصنعين المحليين على تطوير منتجات وعمليات جديدة يمكن أن تساعدهم على الحصول على أعمال في الأسواق العالمية التي تحتدم فيها المنافسة.
يستخدم هذا الفارز المفصلي الآلي كاميرات عالية الدقة وبرمجيات متطورة لأداء عمل كان حتى الآن يحتاج إلى تدخل بشري. هذا الروبوت سوف يحل محل العمال في الشركة المصنعة لمكونات الشاحنات، لكنه أيضا سيساعد الشركة على البقاء في مجال الأعمال التجارية.
وكما يقول أولبريخ: "الروبوتات متوافرة الآن لدى الشركات الصغيرة أكثر بكثير مما كان في السابق، ويمكن أن توفر عائدا أسرع بكثير على الاستثمار. الأتمتة تسمح لهذه الشركات بأن تنمو وتكون مربحة، وتوظف المزيد من الناس".
كان الانحدار الصناعي قضية محورية في حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية، وكان موقف دونالد ترمب من الاتفاقيات التجارية واعتبارها سببا في إفلات فرص العمل إلى المكسيك والصين، قد ساعده على الفوز في الولايات الصناعية؛ وسكنسن وميشيجان وأوهايو وبنسلفانيا. وقال ترمب في شريط فيديو نشر الأسبوع الماضي، يناقش فيه خططه في أول 100 يوم له رئيسا، إنه يريد "الجيل التالي من الإنتاج والابتكار أن يحدث هنا، في وطننا العظيم، أمريكا".
جاذبية رسالته واضحة: التصنيع في الولايات المتحدة فقد نحو خمسة ملايين وظيفة، أو 30 في المائة من القوة العاملة لديه منذ عام 2000. لكن هذه الأرقام تخبر عن نصف القصة فقط. صحيح التصنيع وفر حصة منخفضة من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن إنتاج المصانع استمر في التنامي وبلغ مستويات قياسية هذا العام. في الربع الثالث كان مرتفعا بنسبة 32 في المائة عن أدنى نقطة له خلال ركود 2007-2009، وذلك بحسب ما تشير إليه الأرقام الرسمية.
يقول كريج جيفي، نائب رئيس مجلس إدارة شركة ديلويت للاستشارات: "قبل عشر سنوات كان الناس يقولون إن الولايات المتحدة سوف تفقد قبضتها على التصنيع تماما. الآن نحن نقول: يا للعجب، إن الأمر لم يحدث بهذه الطريقة. وفي الوقت الذي يصبح فيه التصنيع أكثر تعقيدا، يصبح من الممكن إعادة المزيد من الإنتاج إلى الاقتصادات المتقدمة".
كان نمو الإنتاجية المسجلة في التصنيع في الولايات المتحدة بطيئا جدا في السنوات الأخيرة، ما يعني أن تكنولوجيا الصناعة راكدة. لكن الشركات المصنعة تشير إلى أن هناك تقدما يجري بشكل أكبر مما يظهر في البيانات.
يقول هال سيركين، العضو المنتدب في مجموعة بوسطن للاستشارات: "نمو الإنتاجية البطيء هو ما يحدث عندما يكون لديك معدل نمو بنسبة 1 في المائة في الاقتصاد. أعتقد فعلا أن التصنيع في الولايات المتحدة سيعود على الساحة".

صنع في أمريكا
في أماكن مثل بافالو هناك أدلة على أن التصنيع في الولايات المتحدة لديه مستقبل مشرق. المشكلة هي أنه لا يبدو وكأنه المستقبل الذي من شأنه أن يشمل الملايين من فرص العمل الجديدة.
المدينة التي يقطنها 260 ألف نسمة، كانت قوة تصنيع في القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين. "كيرتس رايت"، الشركة التي تتخذ من بافالو مقرا لها، كانت ذات مرة أكبر مصنع للطائرات في العالم، لكنها فشلت في الارتقاء إلى مستوى التحدي المتمثل في عصر الطائرات النفاثة. تضررت القطاعات الأخرى بسبب المنافسة العالمية والتغير التكنولوجي الذي ضرب بقية الصناعة في الولايات المتحدة. في عام 1969، كانت الصناعة التحويلية في منطقة بافالو توظف أكثر من 180 ألف شخص.
على الرغم من أنه لا يزال لديها قطاع حيوي يوظف نحو 51 ألف شخص، المنازل المهجورة في الجانب الشرقي المتهدم في المدينة شاهد على التأثير المدمر لفقدان الوظائف الصناعية.
مثل المناطق الصناعية المتلاشية الأخرى، صوتت منطقة بافالو لترمب. وعلى الرغم من أن ولاية نيويورك ذهبت عموما إلى جانب هيلاري كلينتون، منافسته الديمقراطية، إلا أن المنطقة القريبة من بافالو دعمت ترمب بنسبة 46 ـ 50 في المائة.
لكن جنبا إلى جنب مع العلامات الواضحة على الاضمحلال، بعض شركات التصنيع في بافالو مزدهرة. بالقرب من وسط المدينة، على موقع تشغله منذ أكثر من قرن من الزمان، توظف شركة إيستمان ماشين Eastman Machine العائلية 122 شخصا لصنع آلات قص الأقمشة، بما في ذلك الأدوات المحمولة البسيطة وأنظمة متقدمة يتحكم فيها الكمبيوتر. وتصدر نصف منتجاتها لشركات أخرى تصنع كل شيء، من الطائرات إلى قمصان الـ "تي شيرت"، وتبيع بشكل جيد في الاقتصادات الناشئة، مثل بنجلادش وفيتنام.
واحدة من الطرق التي بقيت فيها إيستمان ماشين تنافسية هي أن اليد العاملة تشكل نسبة ضئيلة جدا من إجمالي تكاليفها: فقط نحو 3 في المائة. الشركات المنافسة في الصين أو في أي مكان آخر ربما تدفع أجورا أقل، لكن هذا لا يعطيها الكثير من الميزة.
يقول روبرت ستيفنسون، المدير التنفيذي الذي ينتمي إلى الجيل الرابع من العائلة: "إذا كنت تستطيع تقديم حلول لقضايا العملاء، يمكنك البقاء على قيد الحياة. التصنيع الأمريكي متفوق من حيث الجودة والموثوقية".
ويبين أن الإبقاء على تكاليف العمالة منخفضة تم من خلال زيادة حادة في الإنتاجية تحققت تحقيقها عن طريق ممارسات عمل أكثر كفاءة. يقول: "في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، قواعد العمل عملت على خنق التصنيع. كنتَ مضطرا إلى أن يكون لديك عمال أكثر مما كنت في حاجة إليه. قلنا لرجالنا: نحن ملتزمون بالتصنيع هنا. لكنكم في حاجة إلى التغيير".
في الماضي كانت القواعد تنص على وجود عامل واحد لكل آلة، لكن الآن يمكن أن يكون لدى إيستمان عامل واحد يدير ثلاثة أجهزة كمبيوتر تتحكم في الآلات.
هناك قصة مماثلة لدى شركة من أكبر أرباب العمل الصناعيين في المنطقة: مصنع محركات جنرال موتورز في توناواندا على الجانب الشمالي من بافالو، قرب شلالات نياجارا. يعمل المصنع بسرعة كبيرة، ثلاث ورديات في اليوم من ليلة الأحد إلى السبت، لصنع محركات للسيارات، بما في ذلك سوبربان وتاهو، السيارتان ذواتا الاستخدامات الرياضية التابعتين لشفروليه، التي تمر مبيعاتها الآن بمرحلة من الازدهار.
من الممكن أن تسير عبر أقسام المصنع دون رؤية أي شخص تقريبا. يتم التقاط كتل محرك يزن 50 رطلا إلى الأعلى وتدويره والعمل عليه من قبل الروبوتات، في كثير من الأحيان بعيدا عن الأنظار. لم يتم استبدال كل مهمة آليا. عندما تحول المصنع لصنع محركات V6 و V8 الأكبر عاد إلى التجميع اليدوي. لكن الإنتاجية مع ذلك ارتفعت بسرعة. حتى الآن، مع ازدهار الإنتاج، عدد الموظفين في المصنع أقل بواقع 400 شخص عما كان قبل عقد من الزمن.
عندما جاء ستيف فينش، مدير المصنع، إلى توناواندا، قبل فترة وجيزة من الركود وعمل على إنقاذ جنرال موتورز، كان لدى المصنع 2100 موظف. بحلول عام 2009 انخفض هذا العدد إلى مجرد 800 موظف. يتذكر قائلا: "كانت الأمور سيئة في كل مكان، لكن كانت صناعة السيارات أسوأ الجميع. نحن هنا في غرب نيويورك منذ عام 1935، وكنت حقا أشعر بالقلق حول ما إذا كان التصنيع سينجو من الانكماش. لكننا نجونا".
عدد الموظفين الآن يصل إلى 1700 شخص. كان المصنع ينافس ليحصل على الاستثمار من جنرال موتورز، وكان يتنافس ضد منشآت في الصين والمكسيك، وفاز.
يقول فينش: "ربما لا يمكننا أن ننافس معدلات الأجور الخاصة بهم. لكن يمكننا تضييق الفجوة من خلال الإنتاجية والابتكار". ويضيف: "هذه هي ميزتنا الاستراتيجية".
تآكلت الميزة التنافسية للصين بسبب نمو الأجور السريع، ما دفع إلى زيادة الاستثمارات في مجال الأتمتة. يقول سيركين: "الصين آخذة في أن تصبح أكثر تكلفة. وعلى الرغم من أنه يمكن لشركات التصنيع أن تنتقل إلى فيتنام وغيرها من الأماكن، إلا أن البنية التحتية هناك بدائية للغاية".
وحتى مع ذلك، الشركات التي تحتاج إلى أيد عاملة رخيصة ستجدها خارج الولايات المتحدة. "مبادرة ريشورينج"، التي تقدم النصح والمشورة للشركات بخصوص نقل مواقع الإنتاج إلى الولايات المتحدة، تقدِّر أن حالات الانتقال التي من هذا القبيل أنشأت 265 ألف وظيفة منذ بداية عام 2010، أي نحو 5 في المائة من عدد الوظائف التي خسرتها الولايات المتحدة منذ عام 2000. السمة الأساسية لعملية التصنيع التي تجعلها مناسبة لإعادة التوطين في الخارج – أن تكون اليد العاملة رخيصة – تعني أنها لن تنشئ عددا كبيرا من الوظائف في الولايات المتحدة.

التدخل الحكومي
المفارقة تتبدى بشكل قوي من خلال المشروع الرئيسي الرامي إلى إعادة التصنيع إلى بافالو: مصنع على موقع معمل قديم للصلب، ستستخدمه شركة سولار سيتي – وهو قسم الطاقة الشمسية على أسطح المنازل، الذي استحوذت عليه منذ فترة قصيرة شركة تيسلا موتورز التابعة لإيلون ماسك.
كان تصنيع الألواح الشمسية في الولايات المتحدة أمرا في غاية الصعوبة، في مواجهة منافسة الشركات الصينية التي تهيمن على الأسواق العالمية. في الأسبوع الماضي، قالت "فيرست سولار" First Solar، أكبر شركة لتصنيع الألواح في الولايات المتحدة، إنها علقت الإنتاج وألغت 450 وظيفة في مصنعها في توليدو في ولاية أوهايو. إذا كان بإمكان ماسك تحقيق النجاح في مصنعه في بافالو، سيكون ذلك إنجازا مثيرا للإعجاب.
لكن خطط سولار سيتي تعتمد على الأتمتة. فقد وعدت بتشغيل 1460 شخصا في المدينة، من المتوقع أن يكون نحو 500 منهم فقط من عمال الإنتاج.
مثل مصنع البطاريات الضخم "جيجا فاكتوري" الذي يجري بناؤه في نيفادا من قبل شركة تيسلا، يستفيد المشروع أيضا من الدعم الحكومي الكبير: ستعمل سولار سيتي على استئجار المصنع من ولاية نيويورك، التي التزمت بتقديم 750 مليون دولار للمصنع الذي تبلغ قيمته 900 مليون دولار. يقول هوارد زيمسكي، الرئيس التنفيذي لشركة إمباير ستيت للتطوير، وهي وكالة تابعة للولاية: "هذه هي أنواع الشركات التي يمكنها حقا تغيير مسار الاقتصاد هنا. كلما زادت الأتمتة، أصبحت العمليات متقدمة تكنولوجيا بشكل أكبر، وأصبحت طاقات التحمل أقوى، وأصبحت منسجمة مع مواطن القوة في أمريكا بشكل أكثر وضوحا".
يمكن للتدخل الحكومي أن يؤدي إلى استحداث فرص عمل في مجال التصنيع في أي مكان، لكن مقابل تكلفة. إذا عمل ترمب على الوفاء بوعوده الانتخابية المتمثلة في فرض رسوم عقابية على الشركات التي تنقل إنتاجها إلى خارج الولايات المتحدة، يمكن أن يفرض إمكانية إنشاء المزيد من فرص العمل المحلية. لكن مثل هذه القرارات يمكن أن تثير تحديات قانونية وتدابير انتقامية في الخارج. ولا يتوقع ستيفنسون أن يبدأ ترمب حربا تجارية، لكنه يعتقد أن بعض مقترحاته الأخرى، بما فيها التخفيضات الضريبية للشركات، يمكن أن تعدل بإنعاش قطاع الصناعات التحويلية في الولايات المتحدة. والسؤال الموجه للرئيس المنتخب سيكون عما إذا كان يمكن لتلك التدابير أن تقترب من تحقيق وعوده بخلق فرص عمل مذهلة.
شهدت مدينة بافالو أخيرا نهضة تمثلت في واجهة بحرية أعيد تجديدها، وافتتاح مطاعم جديدة، وارتفاع في أسعار المساكن. لكن في الوقت الذي ارتفعت فيه العمالة في مجال التسلية والضيافة بواقع 6400 فرصة عمل خلال السنوات الخمس الماضية، وفقا لمكتب إحصاءات العمل، إلا أن العمالة في قطاع التصنيع بقيت بصورة عامة على حالها.
ولا يزال قطاع الصناعة التحويلية مهما من الناحية الاقتصادية، بحسب ديفيد أوتور، الخبير الاقتصادي في معهد ماساتشيوستس للتكنولوجيا. فهو يستأثر بنحو 70 في المائة من جميع أنشطة البحوث والتطوير التي تجري في القطاع الخاص، وهناك الكثير من فرص العمل في مجال التصميم والهندسة وغيرها في القطاعات التي تدعمها مرافق التصنيع. لكن الدور الذي تلعبه في سوق العمل تغير.
يقول أوتور: "سيجري تنفيذ مزيد من التصنيع هنا، لكنه لن يشمل كثيرا من الناس. ولن يعمل على توظيف العمال الحاذقين، الأقل تعليما، الذين تم الاستغناء عن خدماتهم في القوة العاملة على مدى السنوات الـ 15 الماضية. فهذا الأمر انتهى إلى حد كبير".

الأكثر قراءة