الوهم .. وR2
هذا هو "الآر سكوير"، الذي يعرفه الباحثون جيدا، خاصة في علوم الاقتصاد والمالية والعلوم الطبية، وليس هذا المقال للتعريف به، لأننا كباحثين في الجامعات السعودية نواجه مشكلة مع المجتمع حول دور البحث العلمي، ودور أعضاء هيئة التدريس خاصة، فقد جاء هذا المقال. ففي لقاءات كثيرة مع جهات مختلفة كنت أوضح دائما أن البحث العلمي ليس عملا استشاريا، نحن لا ندرس في الجامعات ما نتنبأ به، بل ما ثبت في الوجود، في حقائق الواقع وبعيدا عن مدى مناسبة هذا الواقع أو عدمها، البحث العلمي يقدم الحقائق مجردة بغض النظر عن العواطف والقيم التي نحملها في خواطرنا. عندما نتحدث عن البطالة في المجتمع مثلا فإننا "كباحثين" لا نعتبر البطالة موجودة لمجرد وجود تقرير صحافي أو تقرير إحصائي من جهة ما حتى لو كانت وزارة العمل، فمفهوم البطالة تمت فلسفته والتنظير له منذ أكثر من قرن خلا، لكن وجوده في دولة أو اقتصاد ما ليس مجرد أرقام وإحصائيات تنشرها الصحف، لأننا قد نقع في توهم وجود الأشياء ونتخذ قرارات بناء على هذا الوهم، بينما ليست موجودة على الحقيقة، وللتوضيح أكثر قد نصدر لوائح طويلة عريضة عن حوكمة الشركات كما تفعل هيئة سوق المال ووزارة التجارة اليوم ثم نقوم بتوزيعها على الشركات ثم نقول بعدها للعالم إن لدينا حوكمة في الشركات السعودية، لكن للحقيقة فإن ما لدينا هو لوائح ولم نثبت حتى الآن وجود الحوكمة على الحقيقة بعد. ما يغضب الكثير أن الباحثين لا يؤمنون سوى بما يثبت البحث العلمي وجوده فقط، الباحث لا يرى ما يراه المسؤول. وكمثال على ذلك فما يراه المسؤولون في الشركات والوزارات كمراجعة داخلية فإن الباحثين في كل الأبحاث التي اطلعت عليها لم يستطيعوا أن يروها أو يثبتوا وجودها، المسألة ليست إدارة ومكتبا وموظفا، بل حقيقة عملية لها صفات تميزها عن غيرها من أشياء الوجود. إن أخطر ما يصيب المجتمعات هو الوهم. والفرق بين العمل الاستشاري والبحث العلمي هو الفرق بين الوهم والحقيقة.
وهكذا فالبحث العلمي لا يتحدث عن الماضي ولا عن المستقبل، البحث العلمي يتحدث في الوجود نفسه، العمل الاستشاري قد يأخذ نتيجة البحث العلمي في وجود الأشياء من حولنا ليضرب بها نبوءاته عن المستقبل، هل ستبقى الأشياء موجودة عندما يأتي مستقبل العمل الاستشاري، الله وحده يعلم. لذلك فإن البحث العلمي ليس مسؤولا عن الحلول بقدر ما هو مسؤول عن حقيقة وجود المشكلة، وهذا ما يغضب المسؤولين من الجامعات فكأننا ننتقد دوما دون أن نقدم حلا. سأعطيك مثالا عن التدخين والسرطان، التدخين موجود حقيقة من حولنا لكن هل مرض السرطان موجود فعلا، هناك أشياء تصيب الإنسان تتحول إلى أورام في جسمه أو غيرها يسميها الأطباء إذا ظهرت "السرطان"، وإذا قلنا حقيقة إن السرطان موجود وإن التدخين موجود فهل العلاقة بينهما موجودة على الحقيقة، وليست مجرد وهم يعتقد البعض ممن يكرهون رائحة التدخين فقط، أو من يريدون فرض ضرائب عليه لأن المجتمع متعلق به؟ كيف نفرق بين الوهم ووجود العلاقة وبين وجودها فعلا على الحقيقة؟ هنا يأتي الباحث العلمي الرصين وهنا لا يحبه الآخرون. لا يمكن لأحد في الدنيا أن يجزم بوجود شيء خارج إطار الحواس فالعلاقة بين التدخين والمرض، لا يمكن رؤيتها أو لمسها أو مثل ذلك مما تعرفه الحواس. هنا يأتي دور R2. الموضوعات (أو الأشياء التي نعرفها وهي موجودة من حولنا) التي تؤثر وتتسبب في السرطان لا يمكن الادعاء بأننا حصرناها تماما، نقوم بجمع البيانات عن مرضى السرطان (أي نوع منه) ثم تجميع الأشياء التي نعتقد أنهم تعرضوا لها ومن بينها التدخين مثلا أو شرب حليب زنجبيل في البرد، ثم من خلال معادلات إحصائية معقدة لا يفقه حلها اليوم إلا الحاسب الآلي، نعرف أن R2 لجميع المؤثرات على السرطان قد بلغ 30 في المائة ومعنى هذا أن جميع العوامل تفسر فقط 30 في المائة من الأسباب التي نعتقدها للسرطان، والباقي يظهر في علامة نسميها البواقي (e)، أي أن باقي الأشياء التي توثر في السرطان ولا نعرفها حتى الآن تبلغ 70 في المائة. ثم نقفز للعالم ونقول إن هناك علاقة بين التدخين والسرطان، حتى هذه اللحظة قد تكون صغيرة وهامشية. لكن هنا علاقة أكدها ذلك R2. هذا كل ما يمكن للعلم أن يقوله. يأتي بعد ذلك وهم الاستشاريين ليتحدثوا في كل مكان عن مستقبل ضبط العلاقة بين التدخين والسرطان وحاجتنا إلى فرض الضرائب، أي أن هناك علاقة موجودة بين الضرائب ومكافحة مرض السرطان فمن قال بهذا من الباحثين أو العلماء، هذا هو الوهم الذي يبيعه الاستشاريون. قد تأتي سنوات على هذا الوهم قبل أن يظهر عالم في جامعة ما ليضيف عوامل جديدة ترتفع معها نسبة R2 إلى 50 في المائة (مثلا) ومع اكتشافه لمسبب خطير جديد قد يخفي علاقة التدخين بالسرطان أو يضعفها جدا. سيتحتم على الباحثين التحدث للعالم عن هذا الجديد وسيكون عليهم مواجهة غضب الاستشاريين ورجال الضرائب في الحكومات.
في مقام الاقتصاد، الاستشاريون يأتون عادة من القطاع الخاص، والاستشاريون تدربوا فترات معينة من أعمارهم على أيدي الباحثين في الجامعات، ثم تخرجوا وأضافوا إلى معرفتهم الشيء الكثير، لكن المشكلة أنهم يعتقدون تماما أن كل ما أضافوه هو موجود على الحقيقة وبناء على ذلك يقدمون استشارات عن الوهم، وإذا صادف وسأل الباحثون في الجامعات أسئلتهم المملة عن تفسير العلاقات وصدق وجودها فعلا وعن الارتباطات وR2 فإنهم في الأغلب يتحدثون خارج النص، ولا أحد يرغب في سماع أصواتهم، فكعب المال عال، وعليهم السكوت فورا.