«بن أفليك» يسبر أغوار التوحد في فيلم «المحاسب»
ما أن تشاهد الدقائق الأولى من فيلم المحاسب ـ The Accountant حتى تكتشف أنك أمام عمل مختلف، فعلى الرغم من تناوله موضوع «مرض التوحد» إلا أن أداء الممثل بن أفليك أضاف نفحة فلسفية درامية منكهة بلقطات إجرامية قتالية، تعود من دون أدنى شك للمخرج غافين أوكونور الذي عمل على شد المشاهد وعدم السماح له باستخلاص النهاية، إنما أدخله في دوامة ببناء مسلسل التوقعات والاستنتاجات غير المؤكدة، ولعل شهرة المخرج بعمل أفلام الأكشن مثل فيلم "المحارب" ألقى بظلاله على فكرة التوحد فانبثق بدمجهما في فيلم يستحق المشاهدة.
تدور قصة الفيلم حول كريستيان وولف الذي يقوم بدوره الممثل بن أفليك، حيث يعمل كمحاسب ناجح وبارع في الأرقام داخل شركته المتخصصة في الاستشارات الاقتصادية، التي رغم حجمها الصغير إلا أنها تتعامل مع أخطر الشركات الإجرامية، فيدخلها كريستيان ليكشف التلاعب المالي داخل تلك المؤسسات، إلا أنه من ناحية أخرى كان يتواصل عبر الهاتف فقط مع أحد أفراد الشرطة، ليعلمهم باكتشافاته ويساعدهم في معلوماته للقبض على تلك العصابات.
#2#
إن الخطوط العريضة للفيلم تختلف عن عمق الفكرة الفلسفية التي بني عليها، وهي تمزج بين الأكشن والدراما والذكاء العقلي، حتى أن التشتت لبضع دقائق خلال مشاهدتك للفيلم يشعرك بالضياع، فاستخدام أسلوب "الفلاش باك" في التصوير أعطى الفيلم ثقلا في السيناريو الذي كتبه بيل دوبوك، فالمشهد الأول الذي يقدم كريس إلى جانب أخته التي تظهر بمظهر المجنونة وأخاه الذي يجلس معظم وقته سارح الذهن، تعود في منتصف الفيلم بإيقاع مميز يجعل المشاهد أمام تكهنات مشوقة، فهو ولد مصاب بعضال عصبي يؤثر في سلوكه في الوقت الذي يمنحه طاقة كبيرة من التفكير، وشقيقه اختار النأي بنفسه ما أثر في وضعه أيضا. أما الأب المنتمي إلى تربية عسكرية قد قرر أن الطريقة الوحيدة لمعالجتهما معا إرسالهما لتعلم فنون القتال الشرقية وهما ما زالا صغيرين، حين كبرا تفرقا، لكن النهاية حملت مشاهد غير متوقعة.
عنف الشخصية
فبعد أن ينتقل كريس من شركة إلى أخرى كاشفا الكثير من العصابات العالمية حيث ترد في الفيلم أسماء دول كثيرة وشركات من الشرق والغرب وبلاد العرب.
دخل إحدى الشركات الضخمة التي تعاني خللا ماليا كبيرا يتمثل في اختفاء 70 مليون دولار من حساباتها، وسرعان ما اقترب من حل سبب هذا الخلل إلا أنه يفاجأ بمجموعة تحاول قتله، فيكشف عن جانب عنيف آخر في شخصيته، في الوقت نفسه الذي يقوم فيه عملاء مخابرات بالبحث في حقيقة أعماله.
إنه شخصية مهّمة وخطيرة، لكنه لا يتصّرف أمام الناس على هذا النحو، بل يؤم مكتبا صغيرا للحسابات ويعالج شؤون الناس البسيطة أيضا.
وهو ليس مجرد ذهن وّقاد ونابغة حسابات لا مثيل له، بل ظهر أيضا بشخصية القاتل المحترف، متأثرا بوالده، خاصة في مشهد كان يقود بكريستيان وأخيه، وبعد محادثة تميزت بالعمق الفلسفي عن الحياة والربح والخسارة رافقتها أصوات الشتاء المتسارعة التي تحبس أنفاس المشاهد، انتهى الحوار بعبارة قالها الوالد وهي "الحياة سلسلة من الاختيارات فإما أن تكون الضحية أو لا تكون"، وكانت هذه بداية حياة بطولية قتالية لكنها لا تخلو من الحس الشاعري الإنساني حيث تساعد كريستيان في عمله في تلك الشركة الكبيرة إمرأة شابة تدعى دانا كامينجز (آنا كندريك) التي سرعان ما تجد نفسها مهددة بالقتل مثل كريستيان، لكن لا خوف عليه فهو يجيد الدفاع عن نفسه، وأخذ على عاتقه قضية الدفاع عن زميلته دانا، فتظهر الرومانسية العقلية عندما يجتمع معها، ويكاد يكون المشهد الرومانسي اليتيم والوحيد في الفيلم.
بعد قليل من الوقت يظهر مشهد فجائي يتكلم فيه كريس مع إحدى الفتيات على الهاتف تشرح له كيف يجب أن يتصرف وما يجب أن يفعل وأي اتجاه يجب أن يسلك، ليتبين بعد ذلك أنها المخطط الأساس لكل العمليات التي كان يقوم بها، والأكثر من ذلك، تبين في نهاية الفيلم أنها شقيقته المتواجدة في مصح عقلي، كان يمدها بكل وسائل التقنية من حاسوب آلي وجوال لمراقبة ما يحدث من بعد، فهي تتمتع باكتشاف الماورائيات، وكانت ترسم طريقه بكل التفاصيل.
مواجهة الإخوة
انتصر كريس في كل المواجهات مع تلك العصابة وفي نهاية المطاف وجد نفسه في مواجهة قتالية مع أخيه الذي تم استئجاره لمحاربة ذلك العبقري الذي عجز كل أفراد العصابة عن القضاء عليه، وبعد حوار فلسفي بين الاثنين ذهب كريس تاركا أخاه على قيد الحياة.
ولم تقتصر البراعة على التصوير والسيناريو المقتضب إلى حد ما، بل تجسدت أيضا في الموسيقى التصويرية المتناغمة بشكل كبير مع حركة الممثلين، وكعادته حلق بن أفلك في تقمص الشخصيات فنجح في تجسيد شخصية الرجل المصاب بإضرابات عصبية وبنوع من التوحد الذي ظهر في تلعثمه عند الحديث ومخاطبة الآخرين.
وعلى الرغم من قوة الفيلم وثقله، إلا أن النقاد كان لهم رأي مختلف تمحور حول تشتت شخصية البطل خاصة عندما دمج بين كل الخيوط من المرض إلى الدراما ومن ثم الآكشن والقتال، وبحسب بعض النقاد فلقد فقد الفيلم روح الشخصية مع تراكم التفاصيل، فلم يعد واضحا إذا ما كانت فكرة الفيلم عن شخص خارق وقوي وبارع في استخدام الأسلحة أم مطارد توحدي في موقف غير عادي.
حقق فيلم "المحاسب" أفضل الإيرادات خلال الأسبوع الأول من عرضه في بريطانيا بلغت 1.6 مليون جنيه استرليني، كما احتل المركز الثالث في قائمة أعلى الأفلام تحقيقا للأرباح، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل هذه الإيرادات الضخمة أتت من تأثير نجومية بن أفليك أم أن قضية الإعاقة هي التي استحوذت على انتباه المشاهدين؟! مع الإشارة الى أنه ليس الفيلم الأول الذي تمحور حول مرض التوحد، بل انتشر الكثير من الأفلام تعالج الموضوع عينه كفيلم "رجل المطر" و«ميركوري رايزينج».