في زمن الاستهلاك.. السعادة مفقود دائم والبحث عنها سلعة
السعادة، من لا يعرفها، ومن سينكر أنه لم يتذوق طعمها؛ ولو لحظات قصيرة، ومن له الجرأة ليقول إنه لا يبحث عنها؟ تلك الكلمة السحرية التي حيّرت الفلاسفة منذ القدم، واحتلت حيزا كبيرا من مناقشاتهم من الحقبة اليونانية إلى الوقت الراهن. لقد كان لها نصيب من محاوراتهم عبر العصور، وشغلت أسئلتها ثلة من أعلام الفلسفة الإسلامية، وحديثا قيل عنها الشيء الكثير، ومن زوايا نظر مختلفة (اقتصاديا، اجتماعيا، نفسيا..).
ذواتنا المنبع
قديما قالوا إن أصعب الأشياء تعرف المعرّف، وهذا واقع الحال مع البحث في التعريفات التي قدمت عن السعادة. فبالعودة إلى الفلسفة نجد أن السعادة؛ في نظر أرسطو، تنبع من ذواتنا لا من الآخرين، ويفسر ذلك بقوله: “السعادة هي المعنى والغرض من الحياة، والهدف الكامل، ونهاية الوجود الإنساني”. واختار كبير الفلاسفة سقراط تبسيط المفهوم - بشكل اختزالي -، عندما كشف سر السعادة للآخرين، “سر السعادة كما ترى لا يتم في السعي إلى المزيد، ولكن تنمية القدرة على التمتع بالأقل”.
حديثا جدا أعاد الكاتب والسوسيولوجي الأمريكي فيليب سلاتر (Philip Slater) حكمة سقراط بلسان نقدي للثقافة الاستهلاكية السائدة في عالمنا المعاصر، وبلغة رجال الاقتصاد قائلا: “اقتصادنا قائم على إنفاق المليارات لإقناع الناس أن السعادة تتمثل في شراء الأشياء”. وفي ذات السياق يمكن أن نذكر قول بوب مارلي (Bob Marley) مغني الريغي العالمي: “المال أرقام، والأرقام أبدا لا تنتهي. فإذا كنت تحتاج إلى المال لتكون سعيدا، فبحثك عن السعادة أبدا لن ينتهي”.
وعن تعريف السعادة من منظور اجتماعي، يرى الروائي الإنجليزي أوسكار وايلد (Oscar Wilde) أن “السعادة لا تعتبر سعادة، إلا إذا اشترك فيها أكثر من شخص، ولا يعتبر الألم ألمًا إلا إذا تحمّله شخص واحد”. وفي ارتباط بذات المنظور دائما، يشبه أحدهم السعادة بتلك الزهرة الطبيعية التي تنمو بعد قيامنا بالواجب. وهلم جرا من التعريفات بحسب موقع الرؤية وزاوية النظر تجاه هذا المفهوم الفلسفي الملتبس.
#2#
وصفات جاهزة
لكن ما الحاجة إلى استعادة الحديث عنه، وهو من اتَّقدت لأجله الألباب والعقول عبر التاريخ، وما السر في عودته إلى واجهة النقاش في عصر التكنولوجيا والسرعة المفرطة وهستريا الإشباع، لدرجة أضحى فيها كل شيء قابلا للقياس والتقويم بمعيار تجاري نقدي.
الجواب ببساطة، أن السعادة تحول إلى وصفات مطبخية جاهزة، وقصاصات صغيرة تقدم في كتب على شكل دليل تعلم المرء كيف يصبح سعيدا في خمسة أيام من دون معلم. كل هذا في وسط ركام من السلع والاستهلاك الجشع والمسعور، حتى زُجَّ بالسعادة في متاهات السوق، وحسابات الربح والخسارة، وباتت خاضعة لقوانين العرض والطلب، ما أفقدها تلك الطهرانية الأبدية والنقاء السرمدي المفهوم طيلة تاريخه الممتد.وبذلك تحول السعي المحموم وراء تحقيق هذه الوهم اللحظي إلى شقاء الإنسان المعاصر، إن لم نقل انحطاطه في بعض الأحيان، حيث أصبح مجرد فريسة سهلة لقواعد الاستهلاك حتى غدا كائنا بشريا استهلاكيا بامتياز، يبحث بلا ملل ولا كلل عن الإشباع أملا في تحقيق سعادة لا يدرك كنهها.
أليس ضربا من المس والجنون ما بلغته البشرية من الابتذال، حيال تصورها لمفهوم السعادة في عالم انقل فيه البشر من أفراد بذوات عاقلة بإرادتها الحرة إلى مجرد أرقام استهلاكيّة مسلوبة الإرادة في ماكينة الرأسمالية الطاحنة، واقتصاد السوق الذي لا يبقى ولا يدر. فالأفكار لم تعد هي التي توجّه ميولات الأشخاص نحو البحث عن السعادة، بل إن الرغبة اللاشعورية والحاجات الطبيعية هي من له السلطان الحقيقي في توجيه رغبات وحاجات الناس وإحساساتهم.
مسكنات ظرفية
أليس مسخا أن يتحول هذا المفهوم، بعد كل هذا الصفاء الألمعي إلى مجرد توصيف للحظة إشباع، وترف آني زائل تحركه رغبة متحكم فيها بأساليب الدعاية وألاعيب الإشهار. وأحيانا إلى مجرد مسكنات ظرفية لأشكال من التعاسة والفظاعة التي تحاصر حياة الأفراد من كل جانب.
في غمار البحث المحموم عن هذه السعادة المتطبعة بأدران العصر الراهن، أخذ المنظور الاستهلاكي بزمام المبادرة وراح ينشد إقناع الناس بنيل حال من الرفاه والرضا بمجرد ما يحقّقون قدرا من الاستهلاك الكبير لكل ما يتم تسويقه لهم. غير أنّ السؤال الذي يطرح هنا تحديدا، هو: إلى أي حد ينجم عن ظاهرة الاستهلاك تحقيق السعادة التي فقدت معناها في هذا الخضم الآسن؟ أليس الأمر في النهاية مجرد وهم وأسطورة يراد من خلالها التحكم في ميول الناس واستغلال ضعفهم وإحساسهم بالنقص وإدخالهم في دوامة لا تنقضي؟
هكذا لم تعد السعادة غاية في ذاتها، بل غدت مجرد نتيجة أو لحظة شعورية مؤقتة وزائلة، سرعان ما نمرّ منها إلى اللحظات الأخرى بمجرد ما نصل إليها. بهذا المنطق غير السليم غدونا على حال من الفقد الدائم، وذاك ما يعني البقاء أسرى دوامة من البحث المستمر إلى ما لا نهاية. لدرجة تظهر الأغلبية الساحقة من الأفراد مؤمنين حد اليقين المطلق بمقولة الروائي العالمي ارنست همنغواي – حتى وإن لم يسمعوا بها إطلاقا - والتي تقول إن: “السعادة عيد غير ثابت التاريخ”.