تحديات تقلبات أسعار السلع الأولية وكيفية العلاج

يشهد الاقتصاد العالمي تحولات مهمة مصحوبة بأجواء عدم اليقين:
ــــ انخفضت أسعار السلع الأولية انخفاضا حادا كانت نتائجه معاكسة على البلدان المصدرة.
ــــ استعادة توازن النمو في الصين وزيادات أسعار الفائدة المحتملة في الولايات المتحدة لها تداعيات مهمة ومكلفة على الاقتصادات الأخرى.
ــــ تفرض هذه العوامل وغيرها تحديات كبيرة على صعيد المالية العامة، لا سيما في الأسواق الصاعدة.
وحقيقة الأمر أنه منذ تقييمنا الأخير في نيسان (أبريل) الماضي، لاحظنا تدهورا كبيرا في مراكز المالية العامة "مقيسة بالرصيد الأولي" في الاقتصادات الصاعدة والبلدان المصدرة للسلع الأولية، وقد انعكس ذلك في ارتفاع مستويات الدين العام.
لذا فالوقت مناسب كي يركز العدد الأخير من «تقرير الراصد المالي» على أداء سياسة المالية العامة وسط أجواء عدم اليقين، مع إيلاء عناية خاصة لحالة عدم اليقين التي أوجدتها تذبذبات أسعار السلع الأولية.
الانخفاض الحاد الذي شهدته أسعار السلع الأولية أخيرا جعلنا نتذكر أن هذه الأسعار متقلبة وغير محددة المسار. ويخبرنا التاريخ أن فترات رواج وكساد السلع الأولية يمكن أن تنطوي على تحرك في الأسعار بنسبة تراوح بين 40 و80 في المائة. وإضافة إلى ذلك، يمكن لهذه التحركات أن تكون مستمرة.
وما نوثقه هنا هو أن سياسة المالية العامة تمثل عنصرا أساسا في نقل تقلبات أسعار السلع الأولية إلى باقي قطاعات الاقتصاد. وهذا يحدث لسببين على الأقل. أولهما أن البلدان التي تعتمد حكوماتها بشدة على إيرادات السلع الأولية غالبا ما تؤدي أسعار السلع الأولية إلى تذبذبات كبيرة في إيرادات المالية العامة. والسبب الثاني هو أن عزل الإنفاق الحكومي عن الإيرادات المتقلبة تبين أنه أمر بالغ الصعوبة بصفة خاصة. ونتيجة لذلك، ظل الإنفاق في هذه البلدان مسايرا للاتجاهات الدورية بصورة ملحوظة، حيث يزداد في فترات رواج الأسعار وينخفض في فترات كسادها.
وهذه المرة لا تختلف عن سابقاتها، فالانخفاض الحاد في أسعار السلع الأولية له انعكاسات كبيرة للغاية على المالية العامة. وتدهور الرصيد الأولي لعام 2015 لدى البلدان المصدرة للسلع الأولية بلغ نحو خمس نقاط مئوية من إجمالي الناتج المحلي في المتوسط، حيث تشهد بعض البلدان انخفاضا بالغ الحدة. ويرجع ذلك للتحول الكبير في مسار الإيرادات الاستثنائية التي حققتها البلدان المصدرة للسلع الأولية في سنوات الطفرة. فقد توقف تدفق نصف هذه الإيرادات تقريبا حتى الآن.
ولا يقتصر الأمر على ضعف الإيرادات، بل إن أوضاع التمويل الخارجي في البلدان المصدرة للسلع الأولية أصبحت مقيدة، ما يزيد من صعوبة وتكلفة تمويل الإنفاق، ومن المؤكد أن الأسواق المالية العالمية لا ترحم ــــ فغالبا ما تزداد الأوضاع المالية سوءا بالتحديد عندما تكون البلدان المصدرة للسلع الأولية في حاجة للتمويل.
وبالنسبة للبلدان المصدرة للسلع الأولية التي قامت ببناء احتياطيات وقائية خلال سنوات الطفرة أو التي استطاعت الوصول بسهولة أكبر لأسواق رأس المال، مثل شيلي، وبلدان الخليج، والنرويج فقد كانت في وضع يجعلها أكثر قدرة على دعم الإنفاق الحكومي. غير أن موازنات عديد من البلدان الأخرى تعاني الضغوط.
وسيتعين على جميع البلدان المصدرة للسلع الأولية تعديل إنفاقها العام ليتوافق مع انخفاض إيرادات هذه السلع، مع حماية الإنفاق الرأسمالي والاجتماعي الضروري قدر الإمكان. وستعتمد وتيرة التعديل على مدى توافر الاحتياطيات الوقائية والقدرة على النفاذ إلى الأسواق. وتتوقف قدرة النفاذ إلى الأسواق بدرجة كبيرة على مصداقية أطر المالية العامة.
وماذا عن البلدان غير المصدرة للسلع الأولية؟ تدهورت أرصدة المالية العامة أيضا في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات منخفضة الدخل، ما يعكس اقتران ضعف آفاق النمو بالعوامل القُطرية. والأكثر مدعاة للتفاؤل هو أن الآفاق المستقبلية في الاقتصادات المتقدمة لا تزال دون تغيير كبير مقارنة بتوقعات أبريل الماضي، حيث لا يزال التعافي المتواضع مستمرا بوجه عام على نحو يتماشى مع التوقعات السابقة.
لكن تحذيرنا الدائم من ارتفاع الدين العام وتأثيره السلبي في الاقتصاد يظل في غاية الأهمية. ففي البلدان المتقدمة وبعض بلدان الأسواق الصاعدة بلغ الدين مستويات استثنائية، وما يزيد الأمور سوءا أن هذه الاقتصادات عليها التزامات مستقبلية ضخمة نتيجة الإنفاق المرتبط بالعمر. في تقديراتنا أن الإنفاق على الرعاية الصحية ومعاشات التقاعد سيرتفع إلى 25 في المائة من إجمالي الناتج المحلي بنهاية هذا العقد في الاقتصادات المتقدمة وإلى 16 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في الاقتصادات الأقل تقدما، وسنعرض أدلة جديدة ومهمة في نهاية الشهر الجاري في طوكيو عن انعكاسات الاتجاهات الديموغرافية على المالية العامة.
بالنظر إلى حجم التحديات التي عرضتها، يكون السؤال المهم هو: كيف ستتمكن الحكومات من إدارة الأموال العامة كي تواجه هذه التحديات الجسيمة في الأجل الطويل، مع التصدي للمخاطر ومواطن عدم اليقين الكبيرة في الأجل القريب؟
والإجابة عن هذا السؤال، وإحدى الرسائل الرئيسة لتقرير الراصد المالي، تتمثل في تحسين إدارة سياسة المالية العامة وسط أجواء عدم اليقين من خلال اعتماد إطار قوي ومترابط لإدارة المخاطر. ونرى أن هذا الإطار يجب أن يقوم على أربع ركائز:
أولا، ينبغي أن يكون المصدر الأساس لإيرادات الموازنة من فرض الضرائب على نطاق واسع، مدعوما بقوة الامتثال الضريبي. وفي حالة البلدان المصدرة للسلع الأولية، يمكن التخفيف من حدة تقلبات الإيرادات عن طريق تعبئة الإيرادات بصورة أكثر كفاءة. وأحد الجوانب المحددة في هذا الشأن هو فرض الضرائب على الشركات متعددة الجنسيات.
ويمكن إجراء الإصلاحات ضمن استراتيجيات تصحيح أوضاع المالية العامة التي سيتعين على البلدان المصدرة للسلع الأولية اتباعها.
ثانيا، لا يزال تحسين كفاءة الإنفاق، الذي يشمل إصلاح دعم الطاقة، من الأولويات وقد يساعد على تصحيح أوضاع المالية العامة. وينطبق ذلك بوضوح أيضا على المجالات الرئيسة لتحقيق النمو الاحتوائي القابل للاستمرار كالاستثمار العام والصحة والتعليم.
ثالثا، من المهم وضع أطر للمالية العامة تساعد البلدان على الادخار في أوقات اليسر حتى تتمكن من حماية الإنفاق في أوقات العسر. وفي البلدان المنتجة للسلع الأولية، ينبغي لهذا الادخار أن يحقق التوازن السليم بين مراكمة الأصول المالية، والاستثمار في مشاريع البنية التحتية المادية، والاستثمار في رأس المال البشري من خلال الإنفاق على الصحة والتعليم. وإضافة إلى ذلك، من الضروري البدء الآن في وضع إطار أقوى يمكن أن يساعد البلدان على التعامل مع أجواء عدم اليقين في المرحلة المقبلة.
رابعا، تمثل جودة المؤسسات مطلبا في غاية الأهمية. فقواعد وإجراءات المالية العامة مهمة وإن كان يتعين دعمها بزيادة الالتزام الاجتماعي والسياسي بهذه القواعد والقوانين.
وهذه الركائز مهمة بالنسبة لجميع البلدان، لكنها في غاية الأهمية في البلدان الغنية بالموارد الطبيعية حيث تكون الظروف المحيطة بإدارة الموارد العامة مشوبة بكثير من التحديات. ولا يزال الصندوق ملتزما بمساعدة أعضائه في إرساء هذه الركائز، ولا يقتصر ذلك على التحليل الذي أعرضه اليوم، لكن في سياق حواره المعتاد مع البلدان بشأن السياسات الاقتصادية، والمساعدات الفنية المكثفة التي يقدمها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي