Author

القضايا الاقتصادية السعودية الخمس «2»

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
في المقال السابق تحدثت عن مشكلة فجوة الراتب كواحدة من أهم القضايا في الاقتصاد السعودي، وقد بدأت هذه السلسلة قبل الإعلان عن برنامج التحول الوطني، ومن الجميل أن تأتي بعض المبادرات في البرنامج لتدعم توجهات هذه السلسلة المقالية. وفي موضوع هذا المقال بالذات أشارت أهداف وزارة الخدمة المدنية إلى رفع كفاءة الإنفاق على الرواتب والمزايا والتعويضات، وجاءت مبادرتان لهذا الهدف هما تخفيض الإنفاق على الرواتب والبدلات والتعويضات بنسبة 20 في المائة، وكذلك خفض نسبة العاملين في القطاع الحكومي بنسبة 20 في المائة، والتفسير المتداول حتى الآن لهذا الخفض في الرواتب بأنه سيتم من خلال تقليل عدد العاملين في القطاع العام بتخصيص عدد من قطاعاته. وبعيدا عن هذا التفسير فهناك ملاحظة تتعلق بموضوع المقال مباشرة وهي العلاقة بين كفاءة الإنفاق على الرواتب وبين تخفيضها، هنا تبدو الإشكالية القائمة أساسا في موضوع فجوة الرواتب التي يعاني منها الاقتصاد السعودي. كفاءة الراتب تقاس بارتباطه المباشر بالإنتاج، ولا يوجد في القطاع العام (في المملكة على الأقل) ربط مباشر بين مستويات الإنتاج وبين الرواتب، (مستويات الإنتاج كما أشرت إليها في المقال السابق هي إيجاد القيمة للمجتمع، قيمة ترفع من مستويات الاقتصاد وإنتاجه المحلي وهذه محلها القطاع الخاص). ما نعاني منه في السعودية هو تفسيرنا للراتب في القطاع الحكومي، حيث كان ولا يزال أسلوبا لتوزيع ثروة النفط (المنتج الأساسي للثروة في البلاد). وفي المقابل فإن القطاع الخاص يأخذ نصيبه من الثروة النفطية من خلال العقود الحكومية التي يتم المبالغة في تقييمها خارج نطاق السوق، أو من خلال قدرة العاملين في الحكومة على شراء إنتاج القطاع الخاص. حتى أصبح التسعير المتضخم للمشاريع ظاهرة في القطاع الحكومي، كما ارتبطت قدرات القطاع الخاص ومنها القروض البنكية والتمويل على قدرة موظفي الحكومة على الدفع. وهنا تظهر فجوة الرواتب في القطاع الخاص، عندما يحتكر رجال الأعمال وكبار الموظفين في الشركات معظم الثروة الناتجة من العقود الحكومية وبيع الإنتاج - كأرباح ومكافآت ورواتب – ثم يلقون إلى الموظفين لديهم بالفتات منها. لعل معظم التبرير لهذا التفاوت الضخم كان يأتي من حقيقة أن معظم الموظفين في القطاع الخاص من الأجانب. وعلى أي حال فقد تعاظمت ثروات عدد محدود من رجال الأعمال وأصبحت الثروة والمناصب القيادية في الشركات دولا بينهم، وعانى المجتمع فجوة حادة بين رواتب الحكومة ورواتب القطاع الخاص، وهذه أفرزت ظواهر شاذة لا حصر لها من بينها رضا المجتمع بالسعودة الوهمية (عقد وظيفة متفق عليه بلا عمل وراتب مقابل ذلك يدفع من الحكومة والقطاع الخاص) وفشل القطاع الخاص في سعودة وظائفه لأنه فشل في ترتيب توزيعه للثروة داخل منظماته، وتدخلت الدولة بنظرية دفع نصف الراتب، لكنها تفشل في تفسير أسباب هذه المناصفة وتشوهاتها دون أن تعترف بسوء توزيع الثروة داخل منظومة القطاع الخاص. وبهذا التصور الشامل فإن فجوة الرواتب التي أشير إليها تتكون من عدة فجوات متراكمة، فهناك فجوة رئيسة بين العمال السعوديين في القطاع الخاص وبين غيرهم من الأجانب، وهناك فجوة بين القياديين في الشركات والعمال لا تفسير لها، حيث يتقاضى بعض القياديين مئات الآلاف شهريا، بينما يتقاضى أقرب موظف لهم مبلغ عشرة آلاف ريال، وهناك فجوة بين حجم صافي الدخل الذي يوزع على المالك وبين حجم رواتب الموظفين، وكل هذه الفجوات تراكمت لتصنع الفجوة الرئيسة بين رواتب القطاع العام والخاص. إذا لا يمكن أن نبدأ مشروعا لخفض رواتب القطاع العام دون تحسين كفاءة توزيع الثروة في القطاع الخاص، فمشكلة الرواتب في القطاع الحكومي مرتبطة بمشكلتها في القطاع الخاص، وكفاءة الراتب تعني جودته، وجودته تعني أنه مرتبط بمستويات الإنتاج، وهذه لن تتحقق إلا بتوزيع عادل للثروة، وهذا لن يقاس في داخل القطاع العام، بل في القطاع الخاص الذي سيكون مرجعية تحديد جودة الراتب، لذا يجب أن نتوقف عن مجاملة رجال الأعمال في القطاع العام وأصحاب الثروات. فحل مشكلة السعودة والبطالة وجودة الرواتب تبدأ من هناك، من حل مشكلة فجوة الراتب في القطاع الخاص نفسه. من المدهش جدا أن تتضمن مبادرات وزارة الخدمة المدنية جذب 300 قيادي من القطاع الخاص، ونحن نتعامل مع مشكلة جودة الراتب ونخطط لخفض الرواتب وعدد الموظفين وخصخصة القطاعات، ومع ذلك إذا كان لا بد من جذب القياديين من القطاع الخاص فيجب أن يتم ذلك من خلال مسيرات الرواتب في القطاع العام ولا يتم تطوير بدلات خاصة بهم (كما يحدث الآن وأشرت إليه في مقالي السابق)، لأن مثل هذا الإجراء لا تفسير له اقتصاديا، فلا يوجد فرق بين ساعات العمل في الحكومة لقيادي جاء من القطاع الخاص وبين قيادي في القطاع العام، وإذا قيل إن الكفاءة تشكل فرقا، فإنني أقول، إن العمل في الحكومة عمل بيروقراطي بحت غير إنتاجي، لا مجال للكثير من الابتكار في القيمة، فلا يمكن تبرير تفاوت كبير في الدرجة الوظيفية بحيث إن راتب وبدلات ومكافآت قيادي جاء من القطاع الخاص تعادل ثلاثة أضعاف راتب قيادي حكومي مثله ويعمل في منصبه نفسه وعدد الساعات التي يعملها كلاهما سواء. وتجربة جذب القياديين من القطاع الخاص إلى القطاع العام برواتب القطاع الخاص (غير المبررة هناك أصلا) سيصنع فجوة جديدة أشد تعقيدا في رواتب القطاع الحكومي ويجبر الحكومة في مرحلة ما على إعادة تصنيف موظفيها على قواعد غير مستقرة، وهذا قد يقود إلى اتهامات بالفساد والمحاصصة وغيرها من المشكلات الخطيرة على الاقتصاد، ومرة تلو أخرى أقول، إنه لا مفر من مجابهة مشكلة فجوة الرواتب في القطاع الخاص وإعادة النظر في مشكلة توزيع الثروة هناك.
إنشرها