دور السياسة المالية في دعم الابتكار
تخيل كيف سيتغير المستقبل مع الطباعة ثلاثية الأبعاد والسيارات دون قائد والذكاء الاصطناعي. أو تَأَمَّل كيف أن التطورات الحالية في تكنولوجيا المعلومات والتجارة الإلكترونية واقتصاد المشاركة تؤدي بالفعل إلى تغيير أسلوبنا في التعلم والعمل والتسوق والسفر. إن الابتكار يدفع التقدم، وبلغة الاقتصاد، يحدد نمو الإنتاجية. ونمو الإنتاجية يحدد بدوره مستوى الرخاء، فهو يؤثر على حياتنا ورفاهيتنا من أوجه جوهرية، إذ إنه يحدد المكان الذي نعيش فيه والمدة التي نحياها، كما يحدد نوعية هذه الحياة.
وفي عدد ربيع 2016 من تقرير الراصد المالي، نتناول الابتكار من حيث مدى تأثره بالجهد والحوافز، ما يجعله شديد الاعتماد على السياسات الحكومية. ونخلص إلى أن قليلا من المساندة الحكومية من شأنها تحقيق الكثير في دعم الابتكار والنمو. فعلى سبيل المثال، نقدم أدلة موثقة على أن السياسات العامة التي تخفض تكلفة البحوث والتطوير في القطاع الخاص بنسبة 40 في المائة تؤدي إلى زيادة جهد القطاع الخاص بالنسبة نفسها، وزيادة إجمالي الناتج المحلي بنسبة 5 في المائة على المدى الطويل.
بعد بدء الكساد الكبير في عام 1929، كان العالم مملوءا بالمتشائمين. وفي عام 1941، قام جوزيف شومبيتر وهو يلقي محاضرة في سلسلة “محاضرات لويل” بتلخيص حالة الجدل الدائر، فقال: "التفسير الذي طرحته مختلف أنواع المصادر وتَقَبَّله أبرز الاقتصاديين هو أن هذا الكساد وهذا التعافي غير المُرْضي لم يكن راجعا للظروف غير المواتية للحالة القائمة بالذات، بل كان له مغزى أعمق. فمعنى هذا التفسير هو أن ما حدث هو عَرَض ينبئ عن حالة من الشلل تتسلل إلى النظام الاقتصادي الرأسمالي بخطى بطيئة وأن أوضاع الرأسمالية المفضية إلى الكساد جاءت لتبقى؛ وربما يحسن أن نضع النظرية على هيئة تناقص في فرص الاستثمار". ومن الطريف أن جون مينارد كينز وضع مؤلَّفا قبلها بعشر سنوات، في عام 1930، بعنوان الإمكانات الاقتصادية لأحفادنا، أبدى فيه معارضة شديدة للتشاؤم. وإذا قمنا بتبسيط هذا التنبؤ واعتبرنا أن البلدان التقدمية هي الولايات المتحدة (البلد الرائد تكنولوجيا في تلك الحقبة)، وربما من المفارقات أن الأداء لم يكن رائعا في البداية. ولكن منذ أوائل خمسينات القرن الماضي، أصبح أداء الاقتصاد الأمريكي أعلى بالفعل من الحد العلوي في نطاقات كينز. ونستشف من هذه القصة أنه رغم عدم إمكانية التنبؤ بتفاصيل الابتكار في الأساس، فإن الابتكار يتحدد بفعل الحوافز البشرية ومن الممكن أن نتوقع خطوطه العريضة.
البحوث والتطوير هي دافع رئيس من دوافع الابتكار. وتسهم الحكومات بدور حيوي في تمويل التعليم العالي والأبحاث الأساسية، وهي الركيزة التي تستطيع الشركات البناء عليها فيما تجريه من بحوث وتطوير. ولكن سياسات المالية العامة مهمة أيضا لدعم الاستثمار الخاص في أعمال البحوث والتطوير.
فالشركات الخاصة لا تستطيع بمفردها توجيه استثمارات كافية للبحوث والتطوير، وذلك لسببين. الأول هو أنها غالبا ما تجد صعوبة في تمويل مشاريع الاستثمار في البحوث والتطوير إذا كانت عالية المخاطر، حتى إن كان من المتوقع أن تدر عائدا كبيرا. ويصدق ذلك بوجه خاص على فترات الركود حين يشيع نقص السيولة. ويخلص تحليلنا الجديد إلى أن سياسات المالية العامة التي تساعد على استقرار الناتج تُحْدِث زيادة كبيرة في استثمارات البحوث والتطوير الخاصة وتدعم نمو الإنتاجية. أما السبب الثاني فهو أن استثمارات البحوث والتطوير التي تقوم بها الشركات تفيد الاقتصاد على نطاق أوسع. فعلى سبيل المثال، يقوم الباحثون في مراكز التكنولوجيا الكبيرة، مثل سيليكون فالي في كاليفورنيا، بتبادل المعرفة والأفكار؛ ويمكن أن يحاكي الآخرون التكنولوجيات المتجسدة في المنتجات أو المعدات الجديدة أو أن هذه التكنولوجيات يمكن أن تشكل إلهاما لمزيد من المبتكرات اللاحقة. ولكن شركة بمفردها لن تأخذ هذه التداعيات في الاعتبار عند اتخاذها قرارا بشأن كم الموارد التي تستثمرها في البحوث والتطوير.
وليست كل السياسات التي تقدم حوافز مالية مصممة بكفاءة. فقد استحدثت عدة بلدان أخيرا ما يسمى بنظم صناديق براءات الاختراع التي تخفض أعباء ضرائب الشركات على الدخل من براءات الاختراع. وتشير نتائجنا إلى أن هذه النظم لم تُحْدِث أي تأثير يذكر في البحوث والتطوير في بعض البلدان. وفي البلدان التي أحدثت فيها أثرا فعليا، تتحمل المالية العامة تكاليف بالغة الارتفاع. وكان يمكن للحكومات استخدام هذه الإيرادات الضائعة بصورة أفضل لتقديم حوافز مباشرة للبحوث والتطوير. وفي كثير من الحالات، تكون صناديق براءات الاختراع مجرد جزء من استراتيجية للمنافسة الضريبية الشرسة، ما ينشئ أثرا سلبيا في القاعدة الضريبية في البلدان الأخرى. وبدلا من تقديم الحوافز للشركات الصغيرة، ينبغي للحكومات توجيه الدعم الضريبي للشركات الجديدة. وقد أطلقت بلدان مثل شيلي وفرنسا مبادرات فعالة على صعيد السياسات لدعم المشاريع البادئة المبتكرة الصغيرة. وإضافة إلى ذلك، وللحد من التشوهات الضريبية التي تطول العملية الريادية، يمكن أن تقدم الحكومات مخصصات سخية لتعويض الخسائر الخاضعة للضريبة وتبسيط القواعد الضريبية لتخفيف أعباء الامتثال التي تتحملها الشركات.
ويمثل الابتكار والتغيير دافعين أساسيين للمستويات المعيشية والرخاء على المدى الطويل. وتستجيب أنشطة البحوث والتطوير، وهي من أهم دوافع الابتكار، للحوافز الاقتصادية والسياسات العامة. وتشير بحوث الصندوق إلى أن بعض الجودة في تصميم الدعم العام يمكن أن تحقق الكثير.