نزاعات مائية «1» .. نعمة الله

كثر الحديث أخيرا عن النزاع الدائر حول نهر النيل وكذلك سد النهضة، الذي تنوي إثيوبيا إقامته على أرضها. سمعنا عن استعداد الطيران المصري لقصف هذا السد، وقرأنا عن زيارات ولقاءات بين رؤساء مصر وإثيوبيا والسودان. فلماذا كل هذا الاهتمام بسد تبنيه إثيوبيا وما تأثيره في نهر النيل وما القصة خلف هذا النهر الأشهر في إفريقيا؟
في البداية نلقي نظرة سريعة على نهر النيل قبل الحديث عن النزاعات الدائرة حوله. هذا النهر الأعظم والأطول في العالم، حيث يقدر طوله بما يقارب سبعة آلاف كيلو متر، يتكون من فرعين رئيسيين: النيل الأبيض وهو الأطول وينبع من بحيرة فكتوريا التي تتغذى من نهر روفيرونزا ونهر كاجيرا، والنيل الأزرق وهو الفرع الأشد غزارة وينبع من بحيرة تانا في المرتفعات الإثيوبية. يمر نهر النيل بـ 11 دولة منها دول المنبع كإثيوبيا وأوغندا وتنزانيا ومنها دول المصب كالسودان ومصر. كان المصريون القدماء أيام الفراعنة يطلقون عليه "أتروعا" وربما هي المقابل للترعة في العامية المصرية وتعني ببساطة النهر، وفي مصادر أخرى تترجم التسمية الفرعونية إلى "نعمة الله"، أما اسم النيل فقد جاء من الإغريق.
مرور نهر النيل في عدة دول ـــ التي تسمى دول حوض النيل ـــ واعتماد هذه الدول عليه أسهم في ظهور مشكلة التوزيع العادل لمياهه بين دول الحوض. تفاقمت هذه المشكلة مع مرور الوقت بسبب الزيادة السكانية ـــ وبالتالي زيادة الطلب على الماء ـــ وبسبب التطور الحضري الذي أدى مثلا إلى المطالبة بإنشاء السدود لتوليد الطاقة الكهربائية. هنا نستمع وبحياد إلى وجهة نظر دول المصب ودول المنبع لفهم الموقف بشكل أوضح.
دول المصب "مصر والسودان": تصر دول المصب على حقها التاريخي في مياه نهر النيل، الذي نص عليه عديد من الاتفاقيات الدولية بدءا باتفاقية 1891 ومرورا باتفاقية 1902 حتى الاتفاقية الأشهر 1929. تنص جميع هذه الاتفاقيات على ضرورة عدم المساس بحق مصر والسودان في مياه النيل بأي شكل من الأشكال، بل ضرورة الرجوع إلى مصر في حال رغبة أي من دول المنبع في إنشاء سدود أو مشاريع ري أو لإنتاج كهرباء من شأنها الإخلال بحصتي مصر والسودان من مياه النيل. بل تعطي هذه الاتفاقيات مصر حق الفيتو لتعطيل أي مشروع في دول المنبع من شأنه الإضرار بأمنها المائي.
دول المنبع: هذه الاتفاقيات المشار إليها تمت صياغتها والتوقيع عليها من قبل المستعمر الإيطالي "1890" ثم البريطاني لاحقا. ولم تتم الموافقة عليها من قبل الأحزاب الوطنية، ولهذا لا يعتد بها وتتعين إعادة صياغتها مع الحكومات الوطنية التي تمثل شعوب المنبع حاليا.
دول المصب "مصر والسودان": حتى إن كانت هذه الاتفاقيات تمت في عهد الاستعمار فإن الاتفاقيات اللاحقة كاتفاقية عام 1959 تؤكد أحقية دول المصب في مياه النيل. قانونيا لا توجد اتفاقيات تحكم توزيع الاستفادة من مياه الأنهار ـــ على الأقل حتى العام الماضي ــــ والمرجعية القانونية الوحيدة هي الاتفاقيات المشتركة بين دول الحوض. وهذا ما ذهبت إليه محكمة العدل الدولية عندما حكمت بأحقية مصر والسودان التاريخية في مياه النيل، وأن الاتفاقية الموقعة لا يجوز نقضها أو تعديلها.
دول المنبع: لكن الوضع تغير حاليا عما كان عليه في القرن الماضي، ولا ينبغي لدول المنبع أن ترضى بالقليل من مياه النيل في حين تستحوذ دول المصب على النصيب الأكبر من المياه، فتلك قسمة ضيزى، ولا أن تقف دول المصب حجر عثرة في طريق تطورها من خلال تحديث مشاريع الري أو بناء السدود لتوليد الطاقة الكهربائية.
دول المصب "مصر والسودان": حددت اتفاقية عام 1955 نسبة مصر من المياه بـ 55.5 مليار متر مكعب سنويا في حين كانت نسبة السودان 18.5 مليار متر مكعب. هذه النسب ليست ظالمة إذا علمنا أن 75 في المائة من حوض النيل يقع في هاتين الدولتين، وأنه يمثل 97 في المائة من مصادر المياه المتجددة في مصر ـــ في حين تنخفض النسبة في السودان إلى 77 في المائة. بالمقارنة، فإن دول المنبع تمتلك مصادر أخرى للمياه ولا تمثل نسبة حوض النيل في هذه البلدان رقما مرتفعا. ومع هذا فإن دول المصب تتفهم الحاجة إلى مراجعة الأرقام والاتفاقيات وتؤكد وقوفها مع كل ما من شأنه تطوير البنى التحتية في بلدان المصب من غير الإضرار بالأمن المائي لمصر والسودان.
من الجدير بالذكر أن كثيرا من مشاريع السدود والري في بلدان المنبع كإثيوبيا "يشتبه" في تمويلها والإشراف عليها من قبل حكومة الاحتلال الإسرائيلي، في محاولة للإضرار بالأمن المائي القومي لمصر والسودان.
النزاع حول مياه نهر النيل ليس بجديد أو فريد، فهناك ما يقرب من 260 نهرا مشتركا بين دولتين أو أكثر. والنزاعات مستمرة ويتوقع لها أن تزداد في المستقبل مع ازدياد الطلب على الماء ــــ بسبب الزيادة السكانية ـــ وازدياد الطلب على الطاقة ــــ التي يتم توفيرها عبر السدود. سبب آخر لتزايد هذه النزاعات هو غياب قانون دولي واضح يحكم استخدامات الأنهار غير الملاحية. في المقالات المقبلة سنتعرض لبعض الأمثلة مع إلقاء الضوء على الجانب القانوني أيضا.

المزيد من الرأي