المستتر بذنبه لا تجوز محاكمته

لا أجد من دين الله ورسوله الركض وراء الناس.. لفضحهم ومعاقبتهم على سيئات لم يقترفوها علانية، لتكون منكرا يحتسب المحتسبون في النهي عنها، والأمر بالمعروف لتبديلها وتصحيحها! فمنكر هتك ستر الناس أعظم إثما، وأعظم وزرا من خطاياهم المستترة، وذنوبهم المطوية عن أعين الخلق. "ما عليك من حسابهم من شيء إن حسابهم إلا على الله".
في سنن "أبي داود" باب رجم ماعز بن مالك.. فلما رجم فوجد مس الحجارة جزع فخرج يشتد فلقيه عبدالله بن أنيس وقد أعجز أصحابه فنزع له بوظيف بعير فرماه به فقتله.. ثم أتى النبي ـــ صلى الله عليه وآله وسلم- فذكر ذلك له، فقال: "هلا تركتموه! لعله أن يتوب فيتوب الله عليه". الحديث رقم 4419 هذا وهو مقر على نفسه بصريح الزنا وهو أعظم الكبائر، وأعظم الذنوب، وأثقل الخطايا.. وكان النبي- صلوات الله عليه- كره تتبعه، وحبب تركه، حيث تستوعبه التوبة ورحمتها، وينال من حياته غنيمة كل خير لدينه ودنياه.
جاء في الموسوعة الفقهية: أن الستر على المسلم واجب لمن ليس معروفا بالأذى والفساد فقد قال النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ "من ستر مسلما ستره الله ـــ عز وجل ـــ يوم القيامة". والقاعدة الكلية عند الفقهاء أن ستر الإنسان على نفسه وعلى غيره واجب، ثم تعرضت الموسوعة لمسألة خطيرة جدا وهي "حكم رفع قضايا المستورين للحاكم"، لتردد الحكم الشرعي بين الكراهة في الرفع للحاكم على القضايا التي استتر أصحابها فيها، والحرمة وعدم الجواز، وهو قول المالكية والحنابلة، كما في كتاب الطريقة المحمدية لصريح أدلة وجوب الستر.
ولكون هذا من ثوابت اليقين في الفقه والسنة وسيرة الصالحين والمسلمين، بوب ابن ماجه في سننه في كتاب الحدود "باب الستر على المؤمن ودفع الحدود بالشبهات" وبوب البغوي بابا بعنوان "النهي عن تتبع عورات المسلمين.. وباب الستر"، وكذلك فعل ابن مفلح الحنبلي وكل المفسرين والفقهاء، لأن هذه المفاهيم هي من الكليات العامة التي لا يختلف عليها أحد، وهي من الأصول الثابتة في التشريع.
فطالما هي كذلك.. فلماذا لا يعرض القضاء وهيئة الادعاء والتحقيق، عن القضايا التي رفعت إليهما، من قبل "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" التي خالفت فيها الهيئة ـــ فريضة الستر ــــ أو كانت مقدماتها قائمة على عدم المجاهرة، وأقيمت الدعوى بعد ـــ تتبع العورات ـــ وفضح المستور، وملاحقة الناس في خلواتهم، لأن هذا كله محرم، وغير جائز من جهة وحكم الرفع للحاكم مردد بين الكراهة المشددة والحرمة وعدم الجواز من جهة أخرى.
وبما أن الله لا ينال رضاه بمعصيته، وواجب الستر عنده أحب إليه من العقوبة، ولما في هذا التتبع من هدم سقف البيوت على أهلها، وكثير من النتائج العظيمة والسيئة في مآلاتها وخواتيهما.. يكون من الخير، والمصلحة العامة، وإقامة لفريضة الستر التي هي من الحقوق الإنسانية، التي لا يجوز سلبها منه، ولا التعدي عليه فيها، ما لم يجاهر بذنبه، ويهتك حجاب الستر عن نفسه، فقد كان أمر الله لنبيه "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" أن يقبض النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ على كل سبيل من سبل المغفرة والصفح والرحمة، وأن يعرض عن المتجسسين وعن جهل ملاحقة النساء والمستترين في منكر يلبس عليهم إبليس فيرونه معروفا. فلا ينالهم أجر، ولا يصيبهم من الله مثوبة، وربما كانت مظالم ثقيلة تثقل ظهورهم على الصراط يوم القيامة!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي