منتج «مسكن الفقراء»

في منتصف القرن التاسع عشر ظهرت فكرة "مسكن الفقراء" في الولايات المتحدة التي استوردتها من بريطانيا، كان الغرض منها أن يتم توفير مساكن مدعومة من الحكومة للعائلات والأشخاص الذين لا يستطيعون تحمل تكلفة استئجار أو شراء السكن، ولكنهم في المقابل في حالة جسدية وصحية تمكنهم من العمل كعمال ينجزون أعمال المزرعة التي يقع في طرفها المسكن الذي يأويهم، كانت أوقات الدوام شاقة لأنها تتضمن جهدا جسديا طوال النهار، ولم يكن المقابل مجزيا فقد كانت العائلة تضمن المأوى المتهالك، وكذلك بعضا من الطعام الذي تسد به جوعها، دون أي مقابل نقدي؛ لأن الأساس أن تعيش في هذا المسكن مقابل جهدك البدني بالعمل في المزرعة، وبذلك توقعت الحكومة أنها حلت مشكلة إسكان محدودي الدخل، لكن ما حصل فعليا أن الساكنين رأوا في هذا المأوى سجنا لهم، فهم يكدحون طوال النهار ليحصلوا على المأوى والطعام دون تلبية احتياجات أساسية أخرى تحتاج إلى النقود للحصول عليها.
في العصر الحديث استخدم الباحثون والمهتمون في مجال اقتصادات الإسكان مصطلح "مسكن الفقراء" الذي يصف من تستقطع مصاريف السكن أغلب دخله الشهري، وذلك بدفع جل دخله لأقساط التمويل وسداد فواتير الخدمات، ولا يبقى له من دخله ما يغطي به احتياجات أسرته الأساسية الأخرى من مأكل وملبس ورعاية صحية وغيرها من متطلبات الحياة الحديثة، لذا فقد وضعت بعض الدراسات المنشورة في مجلة اقتصادات الإسكان Journal of Housing Economics، وكذلك بعض الجهات الحكومية مثل إدارة الإسكان والتطوير العمراني الأمريكية HUD معيارا للاستقطاع الذي يمثل القدرة على التملك بألا تزيد تكاليف السكن على 30 في المائة من الدخل الشهري في بعض الدول، وقد تصل إلى 40 في المائة في دول أخرى وما زاد عن هذا الحد فيمكن وصفه بـ "مسكن الفقراء"، والملاحظ أن الدفعة الأولى للتمويل العقاري في هذه الدول تبدأ من 10 في المائة وتصل إلى 30 في المائة، وتصل مدتها إلى 25 سنة كحد أقصى، لأجل ذلك حرصت الكثير من الدول على أن تشرع وتنظم وتدعم قطاع العقار السكني ليصل إلى هذا المعيار، حيث لا يشتكي رب الأسرة من قلة النقد ويضطر إلى القروض الاستهلاكية للوفاء باحتياجات أسرته الأساسية، وبالتالي يدخل في دوامة القروض ويغرق في الديون ويبقى دخله مرهونا للبنك أغلب سنوات عمره، كذلك فإن أغلب المصارف التجارية وبعض البنوك المركزية لا تسمح باستقطاع ما يزيد على 40 في المائة من الدخل الشهري كحد أقصى، وهذا الإجراء ليس خوفا على العميل ولكن تجنبا لمخاطر تعثره بالسداد الذي قد يدخل المصرف في دوامة التورط بالأصول العقارية خاصة في فترات نزول أسعار العقارات السكنية.
كثرت التصريحات من وزارة الإسكان وبعض المهتمين أن التمويل هو العائق لحل مشكلة الإسكان، وكذلك كثفت المصارف وجهات التمويل العقاري خلال الفترة القريبة الماضية إعلاناتها، لحث المواطن على الحصول على منتج "القرض المعجل" أو "المنزل المبارك"، وأخشى أن هذه المنتجات في ظل الارتفاع الشديد لأسعار الوحدات السكنية، قد تعزز من انتشار الأسر التي ينطبق عليها مصطلح "مسكن الفقراء"، ففي الوقت الذي يتوجب فيه السعي إلى تعزيز مبدأ رفاهية المواطن، نلاحظ تشجيع المواطن وإيهامه أن إثقال كاهله بالقروض طويلة الأجل بأسعار عقارات سكنية مرتفعة هو الحل الوحيد والأنسب كما يدعي البعض، ولا يخفى على المتخصص أن التمويل العقاري مهم لتملك السكن ويعد أحد أركانه الأساسية، وأن سوق التمويل ضعيفة وبحاجة إلى فتح باب المنافسة فيه، ولكن هو حل يأتي بعد توافر الوحدات السكنية بأسعار تتناسب مع دخل المواطن وليس قبل ذلك كما هو الحال الآن، لذا لا ينبغي لوزارة الإسكان أن تشارك المصارف التجارية في إغراق المواطن في ديون تمتد لعشرات السنين باستقطاع 50 أو 65 في المائة من دخله الشهري كقسط لتمويل عقاري مرتفع الأصل، وذلك بتسخير قرض صندوق التنمية العقاري لتغطية الدفعة الأولى من قيمة الوحدة السكنية التي ألزمت بها جهات التمويل العقاري لحماية القطاع المصرفي من التوسع في القروض العقارية للأفراد في هذه الفترة خشية انفجار فقاعة أسعار الوحدات والأراضي السكنية، وعند النظر إلى الصورة الكاملة لتحقيق رفاهية المواطن من جميع الجوانب نجد أنه ليس من الحكمة أن تحاول وزارة الإسكان رفع نسبة من يمتلكون السكن بإلزامهم بالقروض حاليا، فقط ليكونوا خارج قائمة المستحقين لدعم الإسكان لتكون النتيجة زيادة معاناة الأسر داخل المجتمع، وليصبح رب الأسرة في عز سنوات شبابه وعطائه تحت ضغوط مالية من غلبة الدين ليعيش بين مطرقة الديون وسندان مصاريف الأسرة لتوفير المستوى المعيشي الملائم لهم، ثم يجد نفسه قد تملك تلك الوحدة السكنية ذات السعر المرتفع، وقد اكتسى شعره شيبا وخارت قواه ليدخل ضمن فئة المتقاعدين الذين يعانون بالأصل ضعف الدخل، لينتقل من همّ استقطاع المصارف لقروضه إلى هم الراتب التقاعدي الزهيد، وباختصار فإن التوجه الأسلم في هذه المرحلة هو التركيز على تصحيح أسعار العقار السكني ثم يأتي بعدها التوسع في التمويل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي