Author

سلوك الإنسان .. بين ضوابط المسؤولية والضوابط الإلزامية

|
تحدثنا في مقالات سابقة عن منظومة التفكير التي توجه سلوك الإنسان. وذكرنا أن هذه المنظومة تبدأ بمنطلقات تشمل في جانبها العام "المبادئ والأخلاق وروح المسؤولية، بل التوجه الفكري والعاطفي أيضا"؛ وتتضمن في جانبها الخاص، المرتبط بالموضوع المطروح، "الأهداف والطموحات" المطلوب تحقيقها. وأشرنا إلى أن هذه المنظومة ترتكز بعد ذلك إلى "رؤية" المشهد الخاص بهذا الموضوع، والسعي إلى استيعاب معطياته من زوايا مختلفة. كما أوضحنا أن للمنظومة أيضا "معالجة فكرية" تستند إلى المنطلقات والرؤية، وتقوم بتحديد ما يجب عمله، حيث يتمثل ذلك في "سلوك الإنسان" تجاه الموضوع المطروح. وبينا إضافة إلى ذلك أن المكونات الثلاثة للمنظومة، "المنطلقات والرؤية والمعالجة"، محاطة "ببيئة" من حولها تؤثر فيها وتتأثر بها تبعا للموضوعات والمعطيات المختلفة. تشمل "البيئة المحيطة" عوامل متعددة.قد يكون فيها ما يحفز وينمي روح "المسؤولية" الذاتية، ويشجع على أداء الواجبات على أفضل وجه ممكن؛ بل ويفعِّل العمل التطوعي في الإطار المهني أو في المجال الاجتماعي. وقد يكون في عوامل هذه البيئة أيضا ما يوجه الأعمال والنشاطات المختلفة عبر "ضوابط" تشريعية أو إدارية "إلزامية"تحاول، على المستوى العام، استهداف مصلحة المجتمع؛ وربما تسعى على المستوى المهني إلى استهداف مصلحة المؤسسات المهنية ذات العلاقة. ولعله يمكن النظر إلى روح "المسؤولية" على أنها "ضوابط أيضا"، لكنها ضوابط إنسانية ذاتية حرة، وليست ضوابط إلزامية قسرية على الإنسان الالتزام بها سواء بقناعة أو بغير قناعة. الاثنان معا: "ضوابط المسؤولية" و"الضوابط الإلزامية" يوجهان سلوك الإنسان نحو تحقيق أهداف محددة. لكن الأولى، أي "ضوابط المسؤولية،" توجه السلوك طوعيا؛ أما الثانية، أي "الضوابط القسرية"، فتوجهه إلزاميا. ولا شك أن السلوك الطوعي الحر أقرب إلى قلب الإنسان وأكثر راحة لنفسه من السلوك الموجه قسريا، خصوصا إذا لم تتوافر في هذا السلوك الإلزامي القناعة الكافية بمتطلباته. ضوابط السلوك النابعة من"المسؤولية الذاتية الطوعية" من حولنا كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر ضوابط المسؤولية الدينية، وضوابط المسؤولية الأخلاقية، وضوابط المسؤولية الاجتماعية للإنسان تجاه أسرته وأقربائه وجيرانه وزملائه وأصدقائه، بل على المستوى الأرحب تجاه وطنه وانتمائه أيضا. ومن ضوابط المسؤولية كذلك تلك المرتبطة بالعمل، مثل مسؤولية رجل الأعمال تجاه أعماله، والموظف تجاه مهام وظيفته، سواء كان طبيبا أو مهندسا أو مزارعا أو إداريا يقدم خدمات مختلفة، أو باحثا ينظر في مختلف مجالات الحياة. وفي مقابل ما سبق، نجد ضوابط السلوك المرتبطة "بالإلزام القسري" من حولنا أيضا كثيرة، سواء ما نقتنع منها بضرورته، أو ما لا نقتنع بذلك. ومن أمثلة هذه الضوابط: قوانين السير؛ وبطاقات الدخول والخروج للموظفين في مختلف المؤسسات لضبط وجودهم خلال ساعات عملهم، وعقود العمل، وعقود التعامل التجاري وغير ذلك. وكثيرا ما تتعرض مثل هذه الضوابط لتحديات، لتظهر في مقابل هذه التحديات إجراءات، تتمثل في "ضوابط إلزامية مضافة" لمنع هذه التحديات أو الحد منها. ولعلنا نحاول الآن النظر إلى "ضوابط المسؤولية" في مقابل "الضوابط الإلزامية" في مجال العمل. فالمؤسسات التي تتمتع ببيئة عمل تنمي روح المسؤولية وتفعلها بين منسوبيها، تجعل من كل عامل فيها يشعر وكأنه رب العمل والمسؤول الرئيس عنه، ليقوم بأداء واجبه طوعيا بحماس وكفاءة وفاعلية، وعلى أفضل وجه ممكن. أما المؤسسات التي لا تتمتع بمثل هذه البيئة، وتسعى إلى وضع ضوابط إلزامية لعمالها، فإن الأمر لا يكون كذلك، وربما تظهر لدى العاملين روح اللامبالاة بالنتائج، حتى إن تمت طاعة الضوابط الإلزامية. وقد صدر عام 2010 كتاب بعنوان "الموظف أولا والزبون ثانيا"، والجديد في العنوان أنه يخالف الرأي السائد في مجال الأعمال الذي يقول "الزبون أولا؛ أو الزبون دائما على حق". مؤلف الكتاب هو فينيت نايار Vineet Nayar الذي عمل كرئيس لإحدى الشركات الهندية الكبرى، ثم كمؤسس لشركة أخرى. ويكمن جوهر الكتاب في العمل على إيجاد بيئة مسؤولية داخل المؤسسات تحفز العاملين فيها وتكسب عواطفهم وتعزز الضوابط الطوعية لديهم لمصلحة المؤسسة، ليكون عطاؤهم بذلك أفضل كما ونوعا. يقول الكتاب إن الاهتمام بروح المسؤولية لدى العاملين يعود ليصب في مصلحة الزبون ومصلحة المؤسسة. يبين الكتاب أن تنمية روح المسؤولية وتفعيل الأداء لدى العاملين في المؤسسات يقضي بمنح الثقة لهؤلاء العاملين، والتعامل معهم على أنهم "شركاء في العمل"، وعلى أنهم مسؤولون عن نجاحه، ومسؤولون أيضا عن إخفاقه إن لم يبذلوا طواعية الجهد الكافي، وهم في ذلك متساوون مع صاحب العمل، أو المسؤول الأول عنه. النجاح نجاح للجميع يقطف ثمرته الجميع، والإخفاق إخفاق للجميع يدفع ثمنه الجميع. وطبقا للكتاب، فإنه على المؤسسات أن تبتعد عن الضوابط القسرية التي قد تحبط معنويات العاملين، خصوصا إذا لم تتوافر فيها القناعة الكافية. لا شك أنه بتنمية روح المسؤولية لدى العاملين تتولد "الضوابط الطوعية" المحمودة الحرة لديهم لما فيه مصلحة العمل. ولا شك أيضا أن هذا الأمر يمكن أن يحد من "الضوابط القسرية" غير المحمودة. وتستطيع كل مؤسسة أن تخطط لتنمية روح المسؤولية لدى العاملين فيها، وأن تعمل على تنفيذ ما تضعه من خطط. ولعل نقطة البداية في ذلك تبدأ من دراسة الوضع الراهن للعاملين في المؤسسة على أساس ثلاثية "المعرفة، والموقف، والممارسة" KAP ، التي تحدثنا عنها في مقال سابق. والمقصود هنا "معرفة" العاملين بضوابط العمل الإلزامية القائمة وغاياتها، ورأيهم أو موقفهم منها، ومدى ممارستهم الفعلية لمتطلباتها. انطلاقا من مثل هذه الدراسة، يمكن العمل على تطوير روح المسؤولية لجعل الممارسة الفاعلة المنشودة حماسا طوعيا يشترك فيه جميع العاملين. قد يكون لا بد من "الضوابط الإلزامية" في قضايا الحياة المختلفة، لكن تنمية روح "المسؤولية" ضرورة للتميز والتقدم لا بد منها، كي يعمل الجميع بحماس من أجل النجاح المشترك، "يضعون ضوابطهم بأنفسهم ويلتزمون بها" من منطلق القناعة الذاتية الحرة. ولا شك أن "للتعليم" دورا رئيسا في تنمية منطلقات روح المسؤولية هذه، ولا شك أن "للإعلام" دورا مهما أيضا. ثم لا بد كذلك لمؤسسات الأعمال المختلفة من تهيئة "البيئة" اللازمة لديها لتنمية روح المسؤولية وتفعيلها في الأداء. نريد عاملين سعداء بعملهم، شاعرين بمسؤوليتهم الفردية والجماعية عنه، نريد دورا إيجابيا ذاتيا فاعلا لكل إنسان في شتى مجالات الحياة.
إنشرها