من يتبنى طفلة «الاستدامة» اليتيمة؟

نعم هي طفلة يتيمة لا يريد أحد تبنيها. القطاع الخاص يريد أن يقول له المجتمع شكرا أن قدم لها بعض الحليب، والقطاع الحكومي يرى أن هذه الطفلة لا تحتاج حتى لرعاية ريثما تكبر ويشتد عودها!
"الاستدامة" طفلة يبدو أنها لن تكبر في كثير من مجتمعاتنا العربية، وستظل يتيمة كون لا أحد تقريبا يرى أهمية لوجودها أساسا.
لأكثر من مرة تغير اسمها بحثا عن "أب" يرعاها. كانت "المسؤولية الاجتماعية" ثم "المسؤولية الاجتماعية للشركات" ثم "مسؤولية الشركات" وذلك للتأكيد على المسؤولية سواء كانت اجتماعية أو بيئية أو غيرها. وأخيرا أخذت اسمها الكبير بمفهومها الشمولي "الاستدامة" لعل وعسى أن يتلقفها أحد في كنف رعايته أو على الأقل لا يتعدى على حقوقها لتصبح مجردة من وجودها وكينونتها ولتصبح أداة تستخدم في تنظيف بيوت بعض الشركات الفاسدة تحت ما يعرف بـ "الغسيل الأخضر" أو واجهة لحملة علاقات عامة خيرية لشركة تستعد لدخول سوق الأسهم أو الخروج من أزمة وشيكة!
ما دعاني لهذه الديباجة التي قد يراها البعض قاسية أو متشائمة، هو حالة الجدل التي خاضها مجلس الشورى، قبل أسبوعين أو أكثر، حول توصية لإحدى عضواته حيث تمت الموافقة على دراسة مقترح إنشاء "هيئة وطنية للمسؤولية الاجتماعية" ثم بعد عام صرف النظر عن المقترح كون المسؤولية الاجتماعية للشركات هي عمل طوعي.. وطبعا هنا لا أقف موقف الـ "مع" ولا "الضد" بقدر ما أرى أن غياب الرؤية في الأساس هي المشكلة؛ بمعنى أن غياب الفكر الاستراتيجي في أي مرحلة من مراحل المشروع ربما كان السبب في "نخبوية" التعاطي مع الأمر ما أدى إلى ألا يأخذ حقه من الدراسة والتمحيص بحيث توجد الحلول والبدائل بدلا من الاكتفاء بالموافقة أو الرفض وانتهى!
تعالوا للغة الأرقام فهي الفيصل في الأمر.. وفرت الاستدامة المدعومة بتعاون حكومي أهلي على سكان ولاية كاليفورنيا "ما يزيد على 56 مليار دولار كتكاليف للطاقة ما بين عامي 1973 و2006" وفقا لـ Climate Prosperity، بل تمت إعادة استثمار الكثير من المدخرات في اقتصاد الولاية، والتي أسفرت عن توليد 1.5 مليون فرصة عمل برواتب بلغت 45 مليار دولار.. هذه الأرقام نتيجة عمل جمعي وسياسات منظمة مدفوعة بدعم من قطاعات مشتركة ضمن منظومة اجتماعية كاملة.
إذن لماذا لا نفكر بشكل اقتصادي في الأمر، لا أن نفكر في تأطير العلاقة، وهل "الاستدامة" ابنتي أم ابنتك، أم هي ابنة المجتمع كله؟.. وماذا علينا لنقوم به كي نجعل الاستدامة طريقا إجباريا نحو التنمية واستخدام الثروة بشكل مستدام وتحسين بيئة الحياة للأجيال ورفع كفاءة مستوى التنمية البشرية؟.
إن تسريع بناء المجتمع الصحي بكل أدواته ومؤسساته خطوة مهمة في صناعة رأى عام يراقب ويحلل ويحاسب ويأخذ القرار المؤثر ضد الاستخدامات الضارة أو السلبية، ويكون قادرا كمجتمع على فرز الممارسات الإيجابية للشركات التي تعمل وفق رؤية مستدامة وتلك التي لا تزال تحاول اللعب بـ "البيضة والحجر" ـــ كما يقول المثل الدارج ـــ ومن ثم تساعد الحكومات على وضع بعض المحفزات والتشريعات التي تتقاطع مع الجانب الاقتصادي وتشكل ما قد يكون محفزا للشركات للمضي في طريق الاستدامة الطويل والمثمر على حياة الناس ومستقبل أبنائهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي