قليلة هي التنبؤات التي يطلقها الاقتصاديون، التي تتوافق لاحقا مع ما يجري في الساحة الاقتصادية العالمية. هذا لا يعني أنه لا يوجد اقتصاديون يتنبأون بصورة متوافقة مع الواقع والاستحقاقات بل والمفاجآت، لكن عدد هؤلاء عادة ما يكون قليلا، وغالبا ما يتسيد المتنبئون غير المتوافقين مع ما سيحدث في المشهد كله. ولذلك نرى أن أصوات هؤلاء أكثر حضورا بل وأكثر تأثيرا، لأنهم الأغلبية، والأهم أنهم يقدمون عادة توقعات توافق التمنيات وليس الحقائق. والإنسان غالبا أيضا ما يحب سماع الأشياء الجميلة، بصرف النظر عن صدقها، أو تناغمها مع الواقع. والمشكلة، أن أصوات الاقتصاديين الواقعيين تذهب أدراج الرياح، وسط هذه الموجة الهائلة من الأصوات المعاكسة. دون أن ننسى، أن هناك مؤسسات تعرف أن ذلك أمر خاطئ، لكنها تبقى مستفيدة في ظل الوهم الاقتصادي لا الواقعي.
أثبتت الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في عام 2008 هذه الحقيقة. وأظهرت بوضوح تام، وبتكاليف باهظة لم يتصور حجمها العقلاء والحالمون معا، كيف أن تغييب الرأي الصريح الواقعي الصادق، يؤدي إلى أزمة كبرى. وكيف أن التركيز في الاقتصاد على التمنيات ليس إلا أداة جديدة لانفجار الاقتصاد نفسه. وكيف أطلق على الاقتصاديين الواقعيين الذين تنبأوا بالأزمة صفة "المتشائمين". بعد هذه الأزمة استحق الذين وقفوا ضد هؤلاء صفة "الملهمين"، وهذا توصيف يسخر من أولئك توصيف "المتشائمين". أمام هذه الأزمة، حتى رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الأسبق ألان جرينسبان وقف مشدوها ومفتوح الفم، ليس من انفجار الأزمة بل من ضرباتها الهائلة الماحقة لكل شيء تقريبا على الساحة الاقتصادية. وهو الذي قال، إن هذه الأزمة بالتحديد لا تحدث إلا كل 100 عام.
وللتذكير فقط، أن جرينسبان نفسه كان من بين الأشخاص الذين وصفوا الاقتصاديين الواقعيين بـ "المتشائمين" وسخر منهم طويلا قبل الأزمة. المصيبة في التوقعات والتنبؤات الاقتصادية أن أغلبيتها مرتبطة بمؤسسات وجهات لها مصلحة بصورة أو بأخرى في أن تكون الساحة الاقتصادية "جميلة" بصرف النظر عن أي حقائق واعتبارات. هكذا فعلت المصارف والمؤسسات المالية الكبرى، بل انضمت إليها بالتضليل حتى وكالات التصنيف الكبرى، التي أصبحت بعد الأزمة محل سخرية أيضا. بمعنى آخر، لابد من التشكيك في أي تنبؤات من جهات ذات مصلحة، والتركيز على ذلك الآتي من جهات مستقلة بعيدة عن أي ارتباطات. ولذلك نرى تنبؤات الاقتصاديين الأكاديميين مثلا، أكثر صدقا وتناغما مع الأحداث الآتية من غيرها. وهؤلاء على وجه الخصوص ممن وصفوا بـ "المتشائمين" قبل الأزمة الكبرى.
نعم، اتسمت تنبؤات الاقتصاديين "الحالمين" بأنها بوصلة تائهة. في الاقتصاد لا توجد "أحلام" بل أرقام ومعطيات موجودة على الأرض. أبشع "الجرائم الاقتصادية" تلك التي ترتكب مستندة إلى الأوهام، أو تضخيم الحالة ومنحها مستويات أكبر من حقيقتها. وسيبقى الحال على ما هو عليه، حتى تستكمل في الواقع الأزمة الاقتصادية العالمية مداها. فهي حتى اليوم لا يزال شبحها ماثلا فوق الاقتصاد العالمي، رغم كل الإجراءات التي اتخذت ليس للتصحيح فقط، بل لتغيير الذهنية التي كانت سائدة قبلها. وتبقى أيضا تنبؤات أولئك الذين لا يرتبطون بمؤسسات اقتصادية أو مالية، أكثر جودة. إنهم ببساطة يتنبأون وفق الحقائق لا استنادا إلى أمنيات لن تحدث مطلقا. والقراءة المستقلة للمستقبل الاقتصادي، تظل العامل الأهم لدرء الأزمات والكوارث. وعلى أساسها ليس بالضرورة أن تحدث أزمة كبرى كل 100 عام، ولا أزمة صغرى كل أسبوع.
