Author

التمكين المهني الاستراتيجي للأفراد

|
استطردت سيدة بنجلادشية عندما سألها أحد الصحافيين عن تأثير الظروف المناخية في أراضيهم وارتفاع منسوب المياه وانكماش الأراضي الصالحة للسكن والزراعة، فذكرت أنها مستعدة للقيام بأي عمل بلا استثناء مهما كان مردوده، وزوجها يقوم بالفعل ذاته يحمل الأمتعة وينقل الركاب على عربته الصغيرة ليتمكنوا فقط من الحصول على وجبة تطيل أمدهم لليوم التالي، تقول: "إن حياتنا لا معنى لها، نحن نعاني ولا نرى أننا نملك الفرصة التي نجعل بها أبناءنا يعيشون حياة أفضل من التي نعيشها". تعتمد فكرة القضاء على الفقر ومعالجة قضايا من هم أقل حظا من غيرهم على التمكين وليس على المنح المباشر، وهذا ما تحاول تفعيله البرامج الدولية والإقليمية بالابتكار والتجديد بعد ما تم تعلمه في التجارب السابقة. تقوم البرامج الحديثة على تعزيز القدرات التي تدار بها الفرص وليس بمنح الهدايا والعطايا التي يزول أثرها بمجرد استهلاكها. هذا ما يؤكده المثل المشهور الذي يدعو لتعليم صيد السمك وليس إعطاء السمك. قياسا، بإمكاننا النظر إلى تجربة السيدة البنجلاديشية ــــ على الرغم من أنها تعيش في مجتمع يعاني الفقر الشديد ـــ وطرحها على عدد من الحالات التي تفتقر إلى المعايير المقبولة معيشيا، سواء كان فقرا ماديا أو ضعفا في التعليم أو الصحة أو الثقافة الحياتية. هذا يعني أن من يعيش في مشكلة نقص المؤهلات ولا يملك الأدوات لحلها بنفسه لن يخرج من مشكلته بطريقة دائمة ونهائية، ستستمر حياته مع الحلول المؤقتة بلا معنى. ليس من المستغرب أن تقابل شابا يعمل لساعات طويلة في أعمال منوعة بلا رؤية طويلة الأمد. يفقد الحافز لأنه يفقد الأدوات التي تمكنه من استغلال طاقاته المهدرة في أعمال مجهدة دون مردود دائم وملائم. معظم هؤلاء لا يعلمون أن الفرص المتاحة أفضل بكثير من الخيارات التي يفضلونها، لأنهم لا يرونها كما يجب. هذا تماما ما شاهدته في شاب يعمل وزوجته في وظائف متدنية الأجور ويقضي أوقاتا إضافية في أعمال جانبية أخرى مثل استغلال سيارته للنقل، ولكن لا يتجاوز إجمالي دخل الأسرة تسعة آلاف ريال. المشكلة أن مثل هؤلاء الذين لا يتنبهون إلى مواطن الفرص التأهيلية والوظيفية الجيدة يدخلون دائرة الإحباط التي يتبعها عدم اهتمام بتغيير مصائرهم، حيث يعتادون مع الوقت على مقدار الجهد المبذول ويرضون بالقليل الذي يخدمهم لأشهر أو سنوات، ولكنه حتما لا يعطي أي ضمانات لتعليم أبنائهم في المستقبل أو تأمين وضعهم الصحي بعد سن التقاعد. حصول الشاب على وظيفة، أي وظيفة، ليس المبتغى. تجاوز التحديات التنموية وتأمين المستقبل الحياتي للأفراد والأسر يستوجب خروج جيل من المنتجين المهرة، الذين يبذلون جهدا بقيمة عالية يعود عليهم بمردود يلائم هذه القيمة. الحلول المؤقتة التي تخرجنا من حالة البطالة المرتفعة لا تكفي، ولا تمثل أي درجة من درجات التمكين المهني والإنتاجي الذي نطمح إليه ويحتاج إليه الجميع. من المهم جدا أن تعاد صياغة البرامج التأهيلية والتثقيفية الوظيفية ودعم الثقافة المهنية للأفراد على وجه السرعة. يجب أن يعرف المقبلون على العمل ومن هم في بداية حياتهم المهنية أن النمو المهني ذا الجودة العالية مطلب ملح لتأمين مستقبلهم ومستقبل مجتمعاتهم، وليس بذخا مهنيا أو اختيارا يتبع ذوق الشخص ورغباته. تأمين المستقبل لا يحصل بوظائف متدنية الأجر، وإتاحة المزيد من الفرص العادية ـــ مثل أسواق التجزئة ــــ لا يقربنا من الحل، بل هو تدعيم غير مباشر للثقافة الاستهلاكية. لماذا لا تنال الفرص المطروحة بعدا استراتيجيا بالرفع من قيمتها المستدامة التي تعكسها للمجتمع؟ لماذا لا تقام مجتمعات تقنية مصغرة في الأحياء أو يتم تنظيم بعض مقدمي الخدمات بطريقة تمنح الشاب فرصة المشاركة موظفا ومالكا في الوقت نفسه. لا حدود للبرامج المبتكرة التي ترفع من الإنتاجية وتحفز الشاب معا، خصوصا لو فسح لها التحرك خارج منظومة البيروقراطية الحكومية، ولدينا محليا الكثير من الشواهد التي يمكن الاستفادة منها. من المهم أن يتجه التحفيز المؤسسي باتجاه تلك الفرص وليس نحو الوظائف التقليدية والتنظيمات العتيقة. من الطبيعي أن يقابل ذلك تثقيف مباشر للأفراد يركز على تحسين مهاراتهم الاستراتيجية، كتحديد الأهداف الحياتية والتخطيط الوظيفي والمالي المبكر. ضعف أحد الأمرين يستدعى تهاويهما معا. سيفقد الشاب كل حوافزه إذا طرحت له فرصة جيدة وهو لا يرى ما يربطها بمستقبله، على الأرجح، سيسيء استغلالها أو يضيعها بالكامل.
إنشرها