«غار تركي» في اليمامة وقصة البطل الشاعر
في بلادنا العزيزة أماكن لها تاريخ لا يمحى من الذاكرة، لارتباطه بأحداث جسام غيرت وجه الواقع آنذاك، ومن بينها هذا الغار الذي نتحدث عنه اليوم. ولا شيء يميز هذا الغار عن غيره من الغيران التي تعد بالآلاف وتنتشر في أنحاء السعودية، أبدا لا شيء يميز هذا الغار عن غيره سوى أنه احتضن بطلا من أبطال تاريخنا الحديث، وصنديدا من صناديد نجد. لقد كان هذا الغار ملاذا بعد الله لذلك البطل الذي اختفى فيه عن أعين الآلاف من ذوي الطرابيش الحمر، وعملائهم الذين ظلوا يطاردونه ليلا ونهارا خوفا من ثورته الوطنية التي أعلنها مطالبا بحقه السليب، لقد كان هذا الغار منطلقا لميلاد دولة عظيمة أعادت الأمن والأمان إلى قلوب الناس بعد الهلع والخوف الذي أصابهم من جور الغزاة المحتلين.
يقول هذا البطل:
والشرع فيها قد مضى واستقرا
يقرا بنا درس الضحى كل قاري
لقد شهد هذا الغار قصة حب طاهر عذري بين فارس نبيل وعربية عفيفة تكلل بعد ذلك بالزواج. هذا هو غار تركي، الذي اختبأ به الإمام البطل تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود ــــ رحمه الله ــــ ليرتب خططه، ويتأمل بهدوء وسكينة في الحل الأنسب للقضاء على العداة المحتلين، وحين تم له ذلك انطلق منه مرة أخرى جامعا أنصاره ومفرقا جمع أعدائه، ومؤسسا الدولة السعودية الثانية.
الغار والهضبة:
يقع غار تركي على هضبة علية، ويبعد عن حوطة بني تميم من الجهة الشمالية مسافة تقدر بنحو 90 كلم، ويبعد عن مدينة الرياض بنحو 120 كيلو مترا ونصل إليه عبر طريق ترابي ممهد. وقع هضبة علية بين وادي السوط ووادي نساح، ويحدها غربا بلدة الحريق وجنوبا بلدة حوطة بني تميم، ووادي السوط وشمالا وادي نساح وشرقا بلدة الدلم.
والهضبة جزء من سلسلة جبال طويق، ويوجد فيها عدة من الغيران متفاوتة الحجم، كما يوجد في بعضها نقوش أثرية قديمة يعود بعضها إلى ما قبل الميلاد، وقد عثر محمد بن سعود الحمود وهو باحث جاد متخصص في علم الآثار، على مجموعة من النقوش الأثرية هناك.
ويبدو أن في هذه الهضبة آثارا ونقوشا أخرى لم تكتشف وأتمنى لو تقوم الجهات المسؤولة عن الآثار في السعودية بمسح شامل لهذه المنطقة لجمع هذه الآثار والنقوش ودراستها.
ابن خميس في الغار:
تحدث الأديب الكبير الشيخ عبد الله بن خميس ـــ رحمه الله ــــ عن هذا الغار، وذكر زيارته له فكان مما قاله، وهو يتحدث عن أشهر غيران اليمامة: "غار تركي بهضبة عليه، وتركي المضاف إليه هذا الغار هو تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود الإمام، مؤسس الدور الثاني للدولة السعودية، اتخذ من هذا الغار في هذه الهضبة المنيعة ملاذا له عن ظلم غزاة الأتراك وأعوانهم ولما سنحت له الفرصة هب لتصفيتهم وطردهم وتطهير بلاد نجد من رجسهم، وقد مررت بهذا الغار في تجوالي في هضبة علية، ووجدت به رسوما وكتابات، زدتها بكتابة من عندي، ولا أدري الآن هل هي باقية، أو قد أمحت، عبرت فيها عن شعوري تلك الساعة، وهذا الغار مجوف في مصب تلعة، وجهه مستقبل مغرب الشمس، وتكوينه هلالي وتلعته هذه متعلقة بالريش، ريش عليه وهو حزن ممتد فوق قمة عليه من الشمال إلى الجنوب، ما سال منه شرقا ينحدر على صفحة وجهها القائم، وعلى المنبسط الذي تقع فوقه هضبة "قرى شنة". وحول هذا الغار غربية المنحدر السحيق الذي به القلات المشهورة "نغيه" وأخواتها".
نقوش الغار:
دار نقاش حول هذه النقوش التي في الغار بين الشيخ عبد الله بن خميس وبعض مخالفيه في الرأي، في كنه هذه النقوش ووجودها أصلا، وهل هي قديمة أو حديثة؟ وكما رأينا في النص السابق فإن الشيخ ابن خميس يذكر أنه أضاف إلى هذه النقوش كتابة من عنده. ويذكر محمد الحمود وهو الباحث المتخصص في علم الآثار أن النقش الموجود عبارة عن وسم لآل سعود، ولم يحدد تاريخ هذا النقش، حيث إنه لم يتبين له.
أسود آل سعود:
ويصف إبراهيم آل خميس في كتابه "أسود آل سعود" ما حدث للإمام تركي أثناء هذه الفترة، فيقول: "آلى تركي على نفسه أن يصمد في وجه الغزاة المحتلين، وأن يحارب ويقاتل ولو منفردا، حاملا سيفه الأجرب الذي أشار إليه في قصيدته المشهورة التي يقول مطلعها:
سر يا قلم واكتب على ما تورا
اكتب سلامي لابن عمي مشاري
إذا كل خوي من خويه تبرا
حملت أنا الأجرب خويا مباري
وبدأ تركي مقاومته لجنود الاحتلال وللحكام وأمراء النواحي من قبلهم، ولكل من تعاون معهم وأيدهم. كان يهب للنضال ليلا يفتك بسيفه بكل من يستحق القتل من هؤلاء، ويختفي أثناء النهار، وكأن الأرض قد ابتلعته، وكان يمارس نشاطه هذا في وادي حنيفة". ثم يصف مكان اختفائه فيقول: "في جبل عليه وهو غير بعيد عن الخرج، جبل صعب المسالك ومرتع للوعول، كثيف الأشجار وخصيب المراعي، ولا تقيم في هذه المنطقة إلا عشيرة آل شامر، وهنا حدثت لتركي قصة كأجمل قصص الحب الطهور، فقد تأخر في نومه بالمغارة وخرج في وضح النهار خلافا لعادته، فرأته فتاة من القبيلة تدعى هويدة (هويدية)، أدركت أنه غريب عن المنطقة، فأحب تركي أن يذهب عنها الخوف منه والشك فيه حتى تستمر في رعي غنمها آمنة ولا تخبر عنه.
#2#
فحدثها بلغة عشيرتها، فاطمأنت إلى حديثه وإلى سمات الرجولة والأصالة البادية على وجهه وتوسمت فيه الخير، فما كان منها إلا أن تحلب من غنمها وتسقيه كل يوم دون أن تسأله من يكون وما عمله، ولم تبلغ حتى أهلها عنه، وظاهر أن الفتاة كانت ذكية وشريفة ووسيمة، فلما هدأت الحال قليلا خطبها تركي من أبيها".
ويذكر ابن بشر أن الإمام تركي قد خرج من الدرعية عند استيلاء إبراهيم باشا عليها سنة 1233هــ، في الليل وقصد آل شامر وأقام عندهم وتزوج بنت رئيسهم غيدان بن جازع بن علي، فولد له ولد سماه جلوي، لأنه ولد في جلوته عن بلده. وهويدية المذكورة هي التي قيل فيها البيت السائر:
يا الله يا اللي حط لهويديه بيت
إنك ترد هويدية في غنمها
قصيدة الغار المزورة:
القصيدة السابقة التي أورد منها إبراهيم بن خميس بيتين، مطلعها: سر يا قلم واكتب على ما تورا، وهي صحيحة النسبة إلى الإمام تركي، أجمعت على ذلك كل المخطوطات الشعرية وكتب الشعر النبطي، وسبق لنا نشر هذه القصيدة كاملة في صفحة "المشراق" اعتمادا على مصادرها المخطوطة القديمة. ويورد الراوية منديل الفهيد ـــ رحمه الله ــــ أبياتا من الشعر، ويذكر أن الإمام تركي قالها عندما كان مختفيا في هذا الغار الذي عرف فيما بعد بــ "غار تركي":
جلست في غار على الطرق كشاف
على طــــــــريق نايـــــــف في عليه
وطويق غرب وكاشف كل الأطراف
وخذيت به وقت ولــــه قابليه
معي الخوي الأجرب على كل حواف
في يد شجاع ما تهـــبي ضويه
قطاع بتاع ولا نيب خواف
وبدبرة الله مــــــــــا نهاب المنية
ولا من ضربنا الدرب بالفعل ننشاف
ونعايس الدنيا وبقــــعا صبيه
ولم أجد هذه القصيدة في مصدر قبل كتاب منديل الفهيد، والذي اتضح لي بعد بحث وتقص أنها منحولة ولا تصح نسبتها إلى الإمام تركي، ويبدو أن أحد الرواة المتأخرين زورها ونحلها الإمام تركي، ليتقرب بها عند سلالته.
لماذا هذا المكان؟:
لماذا اختار الإمام تركي هذا المكان مخبأ له؟، سؤال دار في خلدي وأنا أقرأ وأبحث في سيرة الإمام تركي بن عبد الله آل سعود ــــ رحمه الله ــــ في تلك الفترة، ومحاولاته الجادة المتكررة العصامية لاسترداد الحكم الذي اغتصبه المحتل، وإعادة بناء الدولة وتوحيدها من جديد. لماذا اختار الإمام تركي هذه الهضبة ليختفي فيها، وينطلق منها بين فينة وأخرى؟ هذا السؤال وجهته إلى محمد الحمود الذي زار المنطقة عدة مرات وتأمل فيها ودرسها جيدا، وقدم لي مشكورا إجابة تتمثل في الأسباب التالية:
1 ) تعتبر الهضبة مكانا نائيا بعيدا عن أعين الناس.
2 ) صعوبة الوصول إليها.
3) لكونها هضبة واسعة تتخللها أودية سحيقة وشعاب كثيرة، يسهل معها الاختفاء فيها.
4) كما تتصل الهضبة بعدة مدن وقرى مثل: الخرج، الحوطة، الحريق، والدلم.
هذه هي أبرز الأسباب التي أوردها لي، إضافة إلى أن في هذه المنطقة عدة غيران، فربما كان الإمام تركي يتنقل بينها عند الضرورة.