في مطلع عام 1988، عاد مارتن بيستوريوس البالغ من العمر 12 سنة من المدرسة وهو مصاب بالتهاب حاد في الحلق. لم يدرك والداه حينها أن هذا الالتهاب ليس سوى بداية كابوس ستعيشه العائلة طويلا، فقد تحول إلى عدوى في الدماغ أدخلته في غيبوبة، وآخر كلمة قالها "متى المنزل"، وبعد عامين من محاولات علاج فاشلة قرر الأطباء أنه سيعيش لكن بعقل طفل رضيع، لا يتجاوز ثلاثة أشهر، أي أنه بخير، لكنه غير موجود!
استسلم والداه للأمر الواقع، قاما برعايته بكل ما استطاعا، حتى ابتعد عنهم الأصدقاء، واختفى كل شيء متعلق به، حتى غرفته استبدلت بغرفة مجهزة، فهو مجرد شبح، سنة سنتين، ثلاثا، ثم حدثت المعجزة، لقد بدأ عقله يعود إليه تدريجيا، لكن المصيبة أن أحدا لم يلحظ عودته إلى الحياة مجددا. يقول "كنت على علم بكل شيء، تماما كأي شخص طبيعي، أستطيع أن أرى وأفهم كل شيء، لكن لم أستطع أن أجد طريقة لإخبار أي أحد، شخصيتي كانت مدفونة داخل ما يبدو الجسد الصامت، عقل نابض بالحياة مخبأ داخل شرنقة على مرأى من الجميع.
صدمت بالحقيقة القاسية، بأنني سأقضي بقية حياتي عالقا داخل نفسي، لن ينقذني أحد، لن أتحدث إلى صديق أبدا، لن يحبني أحد.
لا أحلام لدي، لا أمنيات، كنت في انتظار الموت وحيدا في إحدى دور الرعاية، لأكثر من عشرة أعوام، تم الاعتداء علي من قبل من كُلفوا برعايتي لفظيا وجسديا وجنسيا!
كانت مشاعري مختلطة بين الحزن والغضب، عشت في رعب، وأنا أعلم أن ما حدث لي سيحدث مرة أخرى، لكن لم أعرف متى؟! حتى أمي سمعتها يوما وهي تتمنى أن أموت، لم أغضب منها، بل أشفقت عليها.
كنت بحاجة إلى من يشعر بي، وأخيرا جاء المنقذ، كانت معالجة بطب الروائح، بدأت في زيارة دار الرعاية مرة أسبوعيا، لاحظت خلالها ما عجز غيري عن ملاحظته، اقتنعت بأنني أفهم وأشعر بما يدور حولي. حثت والدي على عرضي وفحصي من قبل المختصين، وخلال عام واحد بدأت في استخدام برنامج كمبيوتر للتواصل". وفي غضون سنوات قليلة صنع مارتن صوتا لنفسه، مكنه من التواصل مع الآخرين. يقول مارتن في سياق قصته "التواصل هو ما يجعلنا بشرا، ونصنع عالما أكثر عطفا ورحمة. دونه كنت جمادا على كرسي متحرك. وبه صرت زوجا وابنا وأخا وصديقا وصاحب عمل وخريجا مع مرتبة الشرف الأولى ومصورا هاويا. قدرتي على التواصل مكنتني من هذا كله، ليس شرطا أن يكون لكلماتك صوت، المهم أن تجد طريقة لإيصالها".
