مقار الأندية القديمة .. تآكلت ولم تستثمر
“من نسي قديمه تاه”، مقولة قديمة يكاد يلفها النسيان، ويغمرها طوفان التحديث، كما هو الحال بالنسبة للمباني التاريخية التي شهدت صرخة ميلاد عديد من الأندية السعودية العريقة، وهي حاليا تعاني الإهمال والمجهول معا، بعد أن باتت فريسة سهلة أمام هجمة العمران الحديث، رغم أن منها ما زال باقيا وصامدا، وأن نقش الزمن ملامحه، وكاد الدهر أن يأكل عليه ويشرب، ويبقى الأمل قائما في ترميم ما يمكن ترميمه حتى يبقى هذا الإرث شاهدا على ذلكم العصر العتيق والجميل.
وأكد الدكتور أمين ساعاتي المؤرخ الرياضي، أن بعض المباني التاريخية التي انطلقت منها الأندية السعودية العريقة في مراحل التأسيس الأولى كالاتحاد والهلال والأهلي والنصر والاتفاق والوحدة قد تعرضت للإزالة تماما وأصبحت مواقعها مهمة بالنسبة للعمائر السكنية، ولكن بعض المباني التي شهدت مراحل تأسيس الأندية الرياضية ما زالت باقية ولكنها تتوجع من تآكل البناء وترهل المعمار.
وطالب هيئة السياحة والتراث العمراني بضرورة المبادرة باتخاذ الإجراءات اللازمة للمحافظة على التراث العمراني للأندية الرياضية العريقة قبل أن يزحف عليها الخراب والزوال، وقال: “وفقا لنصوص نظام الآثار والمتاحف والتراث العمراني أناشد هيئة السياحة والتراث الوطني والأمانات في كل المدن أن تتعاون لترميم وإعادة تأهيل ما تبقى من المباني التراثية لأنديتنا الرياضية”.
وتابع: “غرفة اللاسلكي التي تقع في حي البغدادية في جدة التي اجتمع فيها مؤسسو نادي الاتحاد 1346هـ وقرروا تأسيس النادي أزيلت بالكامل وتأسس محلها مبنى شركة الاتصالات السعودية، كما أن ملعب الاتحاد الذي استأنف النادي أول تمارينه ومبارياته 1347هـ تم تقطيعه إلى قطع من الأراضي التي تم بيعها وقامت عليها عمارات سكنية”.
وأضاف: “الغرفة التي شهدت قرار تأسيس الاتحاد والملعب الذي بدأ فيه مزاولة تمارينه قد أزيلا تماما من الوجود، ولكن بعض البيوت التي كانت تعقد فيها اجتماعات النادي في البواكير الأولى من تاريخه ما زالت موجودة وشاهدة على تطورات المراحل الأولى من التأسيس مثل بيت اللنجاوي وبيت عبد الرزاق عجلان (حمزة فتيحي)، وبيت محمد سعيد بن فريج”.
وأوضح أن التراث العمراني لمواقع النادي الأهلي حاله أفضل من غريمه نادي الاتحاد، وقال: “لا يزال بيت محمود شمس والد حسن وعمر شمس ما زال البيت يحتفظ بقوامه كاملا في زقاق شمس بحارة الشام، وفي هذا البيت اجتمع المؤسسون 1357هـ وقرروا تأسيس النادي، وكذلك بيت البترجي الذي شهد جزءا من الاجتماعات في المراحل الأولى من التأسيس ما زال يقف على قدميه المرهقتين بحارة الشام، كما أن ملعبه الأول ما زال أرضا بيضاء فضاء (أرض الدباب) مملوكة للغير وتقع شمال فرع وزارة الخارجية بحارة البغدادية”.
وأشار إلى أن مقر نادي الهلال في الرياض بدأ في بيت من الطين واللبن، وكان مقره في حي الظهيرة الخارجية (شلقا) خلف شارع الوزير (الملك فيصل حاليا) من الناحية الغربية للشارع وملاصقا في جدار (مقابر شلقا) من الناحية الغربية وقد استؤجر هذا البيت مقرا لنادي الشباب قبل تأسيس الهلال في 1377هـ، ثم انتقل إلى مقر آخر بجانب الأول من الناحية الشمالية الغربية وهو لا يبعد عنه سوى 20 مترا تقريبا ولكنه أوسع فناء وأكثر غرفا، وقال: “هذان المقران أزيلا ولم يعد لهما وجود، بل إن الظهيرة فقدت معالمها التاريخية الطينية القديمة وأعيد بناؤها بالمسلحات والمباني العصرية”.
وزاد: “حينما تولى فيصل الشهيل رئاسة النادي خرج الهلال من حي الظهيرة إلى حي الناصرية الذي كان من الأحياء العصرية الجديدة، واستأجر مقرا جديدا بالقرب من شارع العصارات الشميسي ويعتبر في ذلك الوقت مقرا نموذجيا لاحتوائه على عدد من الغرف التي أعدت معسكرا للفرق وصالة للسينما والأفلام الرياضية وملاعب للطائرة والسلة وملعب لليد وغرف للعلاج الطبيعي تم تجهيزها بمعدات طبية حديثة، وبعد ذلك انتقل الهلال إلى المقر الجديد بالعريجاء الذي شيدته الحكومة ضمن مشاريع بناء الأندية الحديثة”.
وكشف أن حال نادي النصر ليس بأفضل من غريمه نادي الهلال في البداية اتخذ النصر مقرا له في شارع العطايف في الرياض بمنزل الشقيقين زيد وحسين الجبعاء والملعب كان في قشلة الشرطة مقابل حديقة الفوطة من الجهة الغربية، وقال: “كان أول مقر لنادي النصر بقشلة الشرطة بالقرب من قصر الحمراء، حيث كان عبارة عن قاعة يتم فيها حفظ مستلزمات الفريق من كور وملابس وأدوات خاصة للتدريب، وكان منزل الجبعاء بحي العطايف هو المكان الذي يجتمع فيه أعضاء الفريق ويتبادلون الأحلام والآمال والطموحات”.
وتابع: “في عام 1379ه (1959) نقل مقر النادي إلى بيت طيني في (حوطة خالد) بقرب إحدى المدارس الحكومية ولم يدم ذلك طويلا، حيث انتقل النادي إلى موقعه الثالث وهو مبنى يملكه سلامة المهوس أحد أعضاء نادي النصر، وكان في شارع الثميري ولم يلبثوا فيه إلا فترة وجيزة، ثم انتقل النادي إلى مقره الخامس وهو أحد البيوت التي تقع على شارع الخزان جنوب مسجد الجوهرة، وبعد عام ونصف انتقل النصر إلى حي الخزان مجاورا لمصلحة المياه (فيلا فاخرة)، وظل حتى 1390 هـ (1970) ثم عاد النادي إلى شارع الخزان وشارع العصارات، وكان هذا المقر الأكثر استقرارا أمضى فيه النصر تسع سنوات من 1391هـ حتى 1400هـ ثم انتقل النادي إلى قصر الأميرة العنود بنت سعود بجوار مبنى وزارة الخارجية، وهو المقر الأكبر مساحة، وقد توافرت فيه الملاعب المتعددة لجميع اللعبات التي يشارك فيها نادي النصر في البطولات والأنشطة الرياضية المختلفة، وقد بلغت المساحة لتلك الملاعب نحو 20 ألف متر مربع، والواقع أن نادي النصر في حاجة إلى امتلاك هذا القصر ليكون رمزا ومتحفا له يستقبل فيه الزوار وعشاق التاريخ والتراث الوطني الرياضي”.
وأضاف: “في عام 1405 هـ (1985) فرغت الرئاسة العامة لرعاية الشباب من بناء المقر الجديد (الحالي) لنادي النصر والواقع بحي العريجاء على طريق الحجاز، والنادي – كغيره من أندية الممتاز – مجهز بأحدث الأجهزة الرياضية والملاعب والصالات المخصصة لجميع اللعبات الرياضية والأنشطة”.
وأكد أن مقر نادي الاتفاق في الدمام نشأ في حي الدواسر وكانت الاجتماعات الأولى عند التأسيس تعقد في بيت علي الغامدي، ثم كان بعض الأعضاء يتسابقون إلى استضافة زملائهم في بيوتهم لمناقشة أوضاع النادي، وكل هذه البيوت التي كانت تعقد فيها اجتماعات نادي الاتفاق قد أزيلت وتحولت الأحياء القديمة إلى عمارات سكنية عصرية”.
وتابع: “أما نادي الوحدة في مكة المكرمة الذي تأسس 1366هـ وبدأ تمارينه في حي المسفلة، كانت اجتماعاته ــ في مراحل التأسيس الأولى ــ تعقد في بيت محمد هنيدي وبيت الدمنهوري في حي القشاشية، ولقد أزيلت كل المناطق حول الحرم المكي الشريف، كما أزيلت الحارات ومسحت الجبال التي كانت تحاط بالحرم المكي من كل الجهات، كما أزيلت كل البيوت التي بنيت فوق رؤوس الجبال ولم يعد لجبل هندي وجبل قبيس أثر يذكر، بل ارتفعت المباني الشاهقة والأبراج العالية لتحيط بالحرم المكي من كل جهاته الأربع، ومع زوال كل شيء حول الحرم أزيلت كل المنشآت التراثية الرياضية من الوجود، ولم يعد لدينا مجال للكلام في المحافظة على التراث العمراني الرياضي بالمدينة المقدسة”.
وختم: “التراث لا يقتصر على الحاضر وإنما يترامى بعيدا عبر الماضي الذي ينطق بما فعله الأوائل رغم أن البيئة قد تكون أحيانا خرساء ولكنها تنطق وتتحدث في كل الأحقاب، والسعودية باختصار من أغنى الشخصيات الإقليمية وأكثرها ثراء وعددا في الجوانب والأبعاد التاريخية والتراثية، ولذلك فإن السعودية موضوع مثالي في علوم التراث وعلوم الآثار، لأنها تمتلك أو تتكئ على كنوز من حضارات الإنسان”.
وأكد أن الأمير سلطان بن سلمان يتولى مسؤولية الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، ونجح الأمير المخلص في حماية التراث الوطني حينما أعد نظام الآثار والمتاحف والتراث العمراني الذي أعاد الاعتبار للتراث الإنساني في هذه البلاد الخيرة المباركة، وحماه من الاعتداء على الحضارة وتراثها الإنساني، والآن نناشده أن يعطي تراثنا الرياضي جزءا من اهتمامه، وقال: “إعادة تأهيل المواقع التاريخية والمباني التراثية ــ سواء كانت رياضية أو عامة ــ وتحويلها إلى مراكز حضارية حتمية يفرضها علينا عمقنا الحضاري المتصل بمجموعة من الحضارات التي نشأت وأينعت فوق أديم هذه الأرض المباركة الخيرة، إن الاهتمام بالتراث الحضاري ملحمة يجب أن نعيشها ونهتم بها ونحتفي في كل وقت بماضيها وحاضرها ومستقبلها، إن كنوز التراث في الأراضي السعودية تنقلنا من مرحلة المعرفة إلى مرحلة التفكير، ولذلك نحن اليوم نفكر في ماذا نحن فاعلون بكنوز التراث الوطني كيف نستثمر هذه الكنوز، كيف نضعها في خدمة مستقبلنا ومستقبل الأجيال من بعدنا؟! لسنا هنا بصدد المدح لمجرد المدح، ولكن تراثنا الوطني يمثل حصنا يُعَلّي كل القيم الجميلة في نفوسنا بدءا من قيم التسامح والمحبة وحتى قيم التنوير والتعمير والبناء”.