سن التقاعد من الـ 60 إلى الـ 70

حققت المملكة إنجازات ملحوظة في العقد الأخير في مجال الرعاية الصحية والاهتمام بصحة الإنسان، فقد ارتفعت كفاءة المستشفيات في القطاعين العام والخاص بشكل جعل المملكة إحدى الدول التي يسعى إليها المواطن العربي لتلقي العلاج، إضافة إلى أن وعي المواطن السعودي بصحته ارتفع بشكل جعل المستوى العام للرعاية الصحية بين أفراد المجتمع السعودي يرتفع إلى مستويات غير مسبوقة.
ولأن الموضوع الذي نناقشه في هذه المقالة هو تعديل سن التقاعد، فإن أهم ما يسترعي انتباه المراقب في الميزانية التقديرية للدولة في عام 2014 أن الدولة اعتمدت نحو 23 في المائة من الإنفاق الحكومي على التعليم، وهذا التوجه الهدف منه إجراء تنمية واسعة في الموارد البشرية، وهي تنمية مطلوبة بإلحاح في المراحل المقبلة من برامج التنمية المستدامة.
لكن إذا أمعنا النظر في نهاية النفق نجد أن عددا كبيرا من الموظفين يبرحون العمل الوظيفي ويتقاعدون عند سن الـ 60 عاما، وهذه السن ــــ بالنسبة إلى معدل عمر الإنسان السعودي ــــ لم تعد سنا للتقاعد، بل أصبحت سنا للنضج وبلوغ أعلى درجات الخبرة والكفاءة، ولذلك فإن المجتمع السعودي يستغني سنويا عن آلاف الموظفين الذين يتمتعون بمختلف الكفاءات والمهارات التي صرفت عليها الدولة أموالا طائلة حتى أصبحت مدججة بالخبرات والمراس وعلو الإنتاجية، ما يؤهلها إلى الإسهام في تنفيذ برامج التنمية بكفاءة عالية.
أما وإننا نستغني عن هذه الكفاءات لأسباب لم تعد مهمة، وهي أننا نريد أن نخلي وظائف هذه الكفاءات الماهرة لأجيال جديدة تعاني البطالة، علما بأن دواء البطالة لا يكمن في الاستغناء عن الكفاءات الماهرة، وإنما هناك عديد من المعالجات التي لم يعد من بينها ولا يجب أن يكون من بينها الاستغناء عن الكفاءات الوطنية المدربة والمؤهلة.
وعلى صعيد التطورات التي حدثت في قضية سن التقاعد نجد أن دولا كثيرة طورت سن التقاعد إلى 70 عاما، بل بعض الدول مثل ألمانيا ألغت تحديد سن معينة للتقاعد، وقالت "إن الإنسان يتقاعد حينما يفقد القدرة على الأداء ويتوقف عن العمل".
وذهب أصحاب هذا الرأي إلى القاعدة التي تقول إن خبرات الإنسانية هي رصيد الأمة على طريق بناء المستقبل، وإن وصول الإنسان إلى أعلى عمر عمره يتيح له فرصة تقديم أفضل الخدمات بأعلى درجات الجودة والإبداع.
وكلنا يذكر أنه قبل 70 عاما تقرر أن تكون سن التقاعد عند الـ 60 عاما، ويوم ذاك كان معدل عمر الإنسان السعودي 60 عاما، ورغم أن معدل عمر الإنسان السعودي تقدم وأصبح يلتحم بـ 75 ربيعا فإن سن التقاعد ظلت عند سفح الـ 60 ربيعا، بمعنى أن بلوغ الموظف الحكومي سن الـ 60 عاما هو الشرط الأساسي ــ وفقا لنظام الخدمة المدنية ــ للإحالة إلى التقاعد وترك العمل الوظيفي الرسمي، حتى لو كان الموظف يتمتع بكامل القدرات والمهارات.
إن التجارب في التاريخ الإنساني تقدم لنا كثيرا من البراهين التي تستوجب إعادة النظر في معدل سن التقاعد بين فترة وأخرى، فمعدل العمر في العصر الحجري الحديث مثلا كان 20 عاما فقط، وكانت الأسر التي ترى أولادها قد وصلوا إلى سن البلوغ نادرة جدا، وفى القرن الخامس عشر كان معدل العمر في أوروبا 33.3 عام، وكانت قليلة هي الأسر التي ترى أحفادها، وفي أواخر القرن التاسع عشر كان معدل عمر الإنسان الأوروبي 37 عاما، وفى الصين كان معدل العمر في عام 1950 يقترب من الـ 35 عاما، أما اليوم فإن معدل العمر في الصين بلغ الـ 70 عاما، بل إن معدل عمر الإنسان في البلدان المتقدمة شارف على الـ 80 عاما، وتتمتع معظم العائلات بالعيش مع أحفادها وأحيانا أبناء الحفدة، وتصبح الذاكرة الاجتماعية والثقافية أنضج مع وجود شريحة كبيرة من المسنين، الذين يقصون بأنفسهم قصص الماضي والحاضر والمستقبل.
وفي ضوء هذا التحليل نجد أن هناك ارتباطا وثيقا بين معدل عمر الإنسان وبين سن التقاعد، وتعمل كافة الدول على وضع أنظمة التقاعد في ضوء معدل عمر الإنسان، بمعنى كلما تقدم معدل عمر الإنسان تقدمت سن التقاعد، فإذا كانت سن الـ 60 عاما مناسبة للتقاعد لمن بلغ معدل عمره 60 سنة، فإن سن الـ 70 سنة مناسبة لتقاعد من بلغ معدل عمره الـ 73 سنة أو يزيد.
لكن للأسف فإن سن التقاعد ظلت واقفة ومتجمدة عند سن الـ 60 ربيعا منذ أكثر من 70 سنة.
إن زيادة معدل عمر الإنسان السعودي تتحقق من خلال مجموعة من العوامل التي تحاط بالإنسان، ومن أهمها التطور في الخدمات الطبية التي أصبحت في المملكة العربية السعودية من الخدمات التي يقصدها المرضى العرب من كل أنحاء الدول العربية، كذلك من الأشياء التي تساعد على إطالة معدل عمر الإنسان بيئة المجتمع التي كلما كانت صحية ونظيفة فإنها تساعد المواطن على الاحتفاظ بالصحة والبقاء في الحياة ــ بإذن الله تعالى ــ لأطول فترة ممكنة، كما أن ثقافة المجتمع تلعب دورا مهما في تفعيل المقولة التي تقول "الوقاية خير من العلاج".
وعلى المستوى العربي فإن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة (الأسكوا) ذكرت في تقريرها الذي أصدرته في عام 2012 أن نسبة الوفيات في العالم العربي وصلت بين عامي 1950 و1955 إلى 24.3 لكل 1000 شخص، ثم انخفضت إلى 7.3 في عام 2008، وترتب على ذلك زيادة معدل العمر من 42.7 سنة إلى 66.5، وتوقع التقرير أن يزداد معدل العمر في الدول العربية بين 2045 و2050 إلى 10.5 سنة، وأن يبلغ في المملكة العربية السعودية (ودول الخليج) نحو الـ 80 عاما.
في ضوء هذه الإحصاءات الموضوعية المهمة، فإنني أتمنى من وزارة الخدمة المدنية أن تتبنى مشروعا لرفع سن التقاعد من 60 عاما إلى 70 ربيعا، وفي هذا استثمار حقيقي للأموال الطائلة التي صرفت لتخريج سرب من الكوادر والكفاءات الوطنية الماهرة، ولا سيما أن مؤسسة التقاعد ومؤسسة التأمينات الاجتماعية تعانيان زيادات ملحوظة في أعداد المتقاعدين سنويا قد تقعدهما ـــ في المستقبل القريب ـــ عن الوفاء بالتزاماتهما التقاعدية!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي