استعادة توازن سوق النفط بآليات السوق نفسها
على الرغم من كل المشكلات التي صاحبت النظرية الاقتصادية الكلاسيكية؛ إلا أنها لم تزل صحيحة فيما يتعلق بآليات السوق، وشعار "دعها تعمل" لم يزل مناسباً في حالات كثيرة.
مرت السوق النفطية بكثير من التجارب، لكن الدول المنتجة الرئيسة تعلمت أن أفضل طريقة للتعامل مع هذه السوق، تركها تعمل دون تدخل من أي طرف. توجيه السوق نحو إرضاء فئة المستهلكين أو المنتجين يتسبب في اختلالات طويلة الأجل تصعب معالجتها بسهولة. ولأن السوق النفطية هي سوق اقتصادية في المقام الأول، فإن إقحام السياسة وإرضاء السياسيين لن يقودا إلا إلى مزيد من الاختلال، هذا ما فطنت له المملكة بعد كثير من الصدامات، ولهذا فإن المملكة لم تزل متمسكة بسياسة السوق وهي تتعامل مع مشكلة انخفاض أسعار النفط رغم أن سياسة السوق هذه تجعل الأسعار منخفضة في المدى القصير، وهذا حتما سيرهق الميزانيات ويزيد الأعباء المالية، ولكن في المقابل ستحافظ المملكة على حصتها في السوق النفطية، وهو هدف يستحق التضحية؛ فالمملكة قادرة في هذا الشأن على استخدام ميزاتها الأساسية في انخفاض تكلفة إنتاج النفط من أجل تحقيق أهدافها الاستراتيجية في هذه السوق. وبعد مضي شهور عدة على بدء مسلسل انخفاض الأسعار، فإن المملكة بدأت تحصد ثمار تلك السياسة المهمة.
المملكة اليوم تتربع على عرش إنتاج النفط وهي تستعيد مكانتها كأكبر منتج للنفط في العالم بعد أن تفوقت على روسيا، وبلغ متوسط إنتاجها اليومي 10.19 مليون برميل، مقارنة بـ 10.12 مليون برميل لروسيا، بفارق 69 ألف برميل يوميا. ليس هذا فحسب؛ بل إن المملكة بإصرارها على استعادة توازن السوق من خلال آليات السوق نفسها جعلت دولا كبيرة، مثل روسيا وإيران، تقتنع بضرورة الإبقاء على الوضع الحالي مع الثقة المتزايدة بأن التوازن بين العرض والطلب قادم بفعل آليات السوق وحدها ودون أي تدخلات من المنتجين، وهو أيضا ما يجعل من مهمة الدول الداعية إلى خفض الإنتاج صعبة للغاية خلال الاجتماع الوزاري المقبل للمنظمة.
تسببت الارتفاعات الكبيرة لأسعار النفط التي شهدتها السوق خلال العقد الماضي، في جذب كثير من الاستثمارات التي كان يصعب قبولها من قبل؛ هذه الاستثمارات اتجهت نحو تعزيز الإنتاج من خلال تطوير إنتاج النفط الصخري، وأيضاً الاستثمارات في الطاقة البديلة. ومع توسع الإنتاج من هنا وهناك أصيبت السوق بالتخمة، وخصوصا مع توجه كثير من الدول الصناعية لرفع مخزوناتها تحسباً لمزيد من الارتفاعات في الأسعار خلال تلك الحقبة.. هذا كله قاد في النهاية إلى تصحيح شامل في السوق وتراجع في الأسعار. لقد كان الحل السهل في نظر الكثير هو التدخل من جانب المنتجين الرئيسين لخفض الإنتاج؛ ما يحقق عودة سريعة للأسعار، لكن هذا يخالف منهج آليات السوق ويجبر السوق على السير في طريق خاطئ سيدفع الجميع ثمنه مستقبلاً، لكن مع قرار الدول المنتجة الرئيسة الحفاظ على حصص السوق أصبحت مهمة الاستثمارات الجديدة للبقاء في السوق صعبة للغاية أو على الأقل في المحافظة على مستويات الإنتاج نفسها. وبهذا فإن السيناريو القادم للسوق بدأت ملامحه في الظهور مع تكبُّد شركات النفط الصخري الأمريكي خسائر تجاوزت 62 مليار دولار، كما أصبحت شهية الدول لرفع مخزوناتها أقل مع التوقعات باستمرار تراجع الأسعار. إن الانخفاض في مستويات الإنتاج سيأتي من السوق نفسها، وليس من قرارات سيادية، وهو الأمر الذي سيحقق توازنا طويل الأجل في المستقبل.