Author

الدراسات القانونية المقارنة

|
من خلال تجربتي في الدراسات العليا، خاصة مرحلة الدكتوراه مررت بمنهجية قانونية ألا وهي فكرة دراسة القانون المقارن من خلال الأبحاث التي كانت تقدم في المواد المنهجية للدراسة، وكنا نتعاطى مع هذا النوع من العلوم دون تحديد لمعالمه ولم يكن لدي تصور دقيق عن حدود هذا العلم بدقة حتى أرشدني أحد الفضلاء إلى بحث بعنوان علم القانون المقارن للدكتور شفيق شحاتة ولخصت للقارئ الكريم أهم ما ورد في هذا البحث وأضفت من عندي بعض المعاني مع بعض الأمثلة التوضيحية التي تدعم أصل الفكرة، فمادة القانون المقارن لها ناحيتان اثنتان، فهي من ناحية تقوم على دراسة تحليلية للنظام القانوني في التشريعات المختلفة – وهذا هو الجانب الوصفي من جانبي هذا العلم الحديث. ثم إنها من ناحية أخرى تحاول استخلاص الأصول الأولى التي تخضع لها النظم القانونية في مختلف البيئات وتكشف عن أسباب الفروق القائمة ما بين النظم القانونية المختلفة وفائدة استخراج النقاط المشتركة والأصول والفروق القائمة ما بين التشريعات المختلفة يظهر في معرفة أساليب الصياغة القانونية وأثر العوامل الاجتماعية والإقليمية والاقتصادية وغيرها في الأوضاع القانونية المتباينة. وهذا هو الجانب الإنشائي أو التركيبي من جانبي مادة القانون المقارن. وليس من السليم أن ينظر إلى الجانب التحليلي لمادة القانون المقارن على أنه مجرد دراسة لنظام قانوني أجنبي. فالقانون المقارن شيء ودراسة القوانين الأجنبية المختلفة شيء آخر أثناء دراسة موضوع معين، فإذا قصر الباحث دراسته التحليلية على مجرد استعراض لأحكام القوانين الأجنبية المختلفة بالنسبة إلى الموضوع الذي يريد بحثه فإنه لا يكون قد أتى بجديد مما يصلح محلا لعلم قائم بذاته. إن دراسة قانون معين يتولاها في العادة على الوجه الأكمل فقهاؤه في البلد الذي يطبق فيه ذلك القانون فالذي يضيفه إلى العلم هو الفقيه الذي يجعل من ذلك القانون مادة للمقارنة والواقع أن الفقيه الذي يقوم بدراسة القانون الأجنبي ليقارنه بقانونه الوطني لا يبحث في أحكامه للوصول إلى تطبيقها كما يفعل ذلك فقهاء ذلك القانون الأجنبي، بل إنه يتناوله بالدراسة باحثا عن الأصول الأولى التي تحكمه وعن المؤثرات التي أدت إلى تكييفه على وضع معين، وهو يقوم بذلك البحث واعيا متنبها إلى ما في قانونه الوطني من أحكام متشابهة أو متباينة. فالجانب الوصفي لمادة القانون المقارن ينطوي بذاته على حقائق علمية جديدة غير تلك الحقائق التي يدركها الباحث في القانون الأجنبي بغية تطبيقه في بلده الأصلي أو في بلد آخر وفقا لقواعد القانون الدولي الخاص. فالغرض من المقارنة هو ليس التطبيق للقانون الأجنبي بل إدراك التشابه والفروق ومنشأ ذلك والتطورات التي صاحبت ذلك وهل ما زالت المؤثرات قائمة مثل دراسة نظرية الأعمال السيادية في القضاء الإداري الفرنسي والمصري والسعودي فالمنشأ لهذه النظرية ظروف تاريخية لمجلس الدولة بعد عودة الملكية في عهد نابليون ولكن بقية النظرية بعد ذلك مع تقليص لدورها وأثرها ومحاربتها فقهيا ومع الأسف إن الدراسات المقارنة لا تستخلص أوجه التشابه والفروق في مجالات تطبيق هذه النظرية بل يتم سرد الواقع في القوانين دون بحث للأصول المشتركة والفروق فيها والظروف التاريخية لها ومدى مناسبة تطبيقها. فاستخلاص أسباب الخلافات القائمة ما بين التشريعات المتباينة وما تنطوي عليه تلك الخلافات من تنوع في أساليب الصياغة ومن تفاعل مع مؤثرات البيئة – كل ذلك يصلح موضوعا لعلم قائم بذاته مستقل عن غيره من العلوم القانونية وهو المعتبر من الدراسات المقارنة وهو الجديد الذي يأتي به الباحث في الدراسات المقارنة. ومن العلوم التي تختلط موضوعاتها بموضوع تحليل القانون المقارن ما يسمى فلسفة القانون والواقع أن فلسفة القانون أو علم أصول القانون قد يفيد من علم القانون المقارن فائدة عظمى ولكن فلسفة القانون شيء، والقانون المقارن شيء آخر. إن فلسفة القانون تقوم على أساس تجريدي صرف، وهي تصل إلى الكشف عن الحقائق القانونية الأولى أي عن أصول القوانين، مستوحية الروح العامة للقوانين. أما القانون المقارن فيقصر بحثه عن الأصول المشتركة والفروق المتباينة ما بين مختلف النظم القانونية فهو مرحلة وسطى ما بين الدراسة الموضوعية للقوانين المختلفة وفلسفة القانون، وغالبا تستعين الدراسة الفلسفية بالمعلومات التي يمدها بها القانون المقارن. ولو تمثلنا هيكل العلوم القانونية المختلفة على صورة هرم فإننا سوف نلمح على قمة ذلك الهرم مادة فلسفة القانون مرتكزة مباشرة على علم القانون المقارن الذي يرتكز بدوره على فروع القانون في البلاد المختلفة. ويجب أخيرا ألا نخلط ما بين القانون المقارن وتاريخ القانون. إن تاريخ القانون يبحث هو الآخر في المؤثرات الاجتماعية التي أدت إلى تطور القواعد القانونية على مرور الزمن ويكشف عن الأوضاع التي فرضتها مقتضيات البيئة في وقت معين على مجموعة من الناس. ولا شك أن الباحث في تاريخ الشرائع يفيد فائدة عظمى من علم القانون المقارن، فإذا ما مد الباحث بصره إلى التشريعات والنظريات التي تعاقبت على مدى الأجيال في مختلف أنحاء العالم لاستخرج منها ضوءا جديدا ينير له الطريق ويساعده على تتبع تطور النظم القانونية وعلى استخلاص نواميس مطردة لهذا التطور، ولكن تاريخ القانون شيء والقانون المقارن شيء آخر. وبهذا يتضح أن تاريخ القانون يقوم في الأصل على دراسة تطور النظم القانونية في بلد معين وقد يستعين لتحقيق غرضه بعلم القانون المقارن. أما علم القانون المقارن فيقوم أساسا على الموازنة ما بين التشريعات المتباينة لاستخلاص أسباب التشابه والاختلاف. والباحث في علم القانون المقارن هو بحاجة إلى دراسة تاريخية لكل نظام من النظم القانونية التي جعلها مادة للمقارنة يستكمل بها استيعابه لأحكام تلك القوانين المختلفة، وأتمنى لكم التوفيق والنجاح.
إنشرها