تنطلق أعمال قمة مجموعة العشرين في تركيا، على وقع تطورات؛ بل تحولات على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لا تخص بلدان المجموعة فحسب؛ بل ترتبط بالساحة الدولية كلها. ومجموعة العشرين، التي اتخذت زمام المبادرة الاقتصادية في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، باتت أيضاً تحتوي زمام المبادرة حول القضايا السياسية؛ ليس فقط لارتباط السياسة بالاقتصاد، أو العكس؛ بل أيضا لوجود بلدان محورية فيها تصنع القرار العالمي. وبصرف النظر عن الفوضى في صُنع القرار الحاسم على صعيد البلدان الكبرى التقليدية، بقيت مجموعة العشرين كياناً رئيساً؛ بل كياناً هو الأقوى حاليا على الساحة العالمية.. يؤثر ويتأثر بالتطورات المتلاحقة. ولا شك في أن الهجمات الإرهابية البشعة التي استهدفت باريس قبل ساعات من انعقاد القمة، ستلقي بظلالها عليها. وكذلك الأمر فيما يتعلق ببقية القضايا التي ترتبط بصورة مباشرة وغير مباشرة مع مثل هذه الهجمات الإجرامية.
لعبت المملكة دوراً محورياً ولا تزال على صعيد مجموعة العشرين، من جوانب عدة.. فقد أقرّت المجموعة قبل عامين تقريباً، أن السعودية تتصدّر قائمة دول هذه المجموعة في الالتزام بتعهداتها محلياً وإقليمياً وعالمياً. كما أن اقتصاد المملكة، أثبت مناعة قوية في الأشهر الماضية، في أعقاب انهيار أسعار النفط، كما أظهر مرونة في التعاطي مع الإصلاحات المطلوبة وتلك الضرورية. واعترفت الجهات الدولية الرصينة في الآونة الأخيرة، بأن الرياض تستطيع أن تتجاوز الآثار التي تتركها عملية تصحيح السوق النفطية، التي أطلقتها المملكة في الواقع، لسوق أكثر استدامة واستقراراً وعدلاً أيضاً. وأقامت المملكة سلسلة من المدن الاقتصادية في الأعوام القليلة الماضية، عزّزت من الحراك نحو التنويع، كما خفّفت من القوانين الاستثمارية؛ بل أزالت بعضها.
أمام هذه الحقائق لم يتأثر دور المملكة ضمن مجموعة العشرين سلباً؛ بل الذي حدث أن دورها تعاظم على مختلف الأصعدة، في حين يتعرّض أعضاء في مجموعة العشرين لخطر الخروج من المجموعة لأسباب اقتصادية بحتة. وتطرح السعودية سياسة خارجية متوازنة تهدف إلى إزالة التوترات من كل المناطق على الساحة الدولية، وبناء أسس لمزيد من الازدهار في هذه المناطق، وتقف بقوة ضد كل من يسعى إلى تعطيل هذه السياسة التي باتت مطلباً دولياً أكثر منه مطلباً سعودياً. وهي من خلال مجموعة العشرين، تقوم بتكريس السياسة المشار إليها، وتسعى إلى موقف دولي موحد لا ينتقص من المصالح الوطنية للبلدان المعنية في صُنع القرار، لكنه يدفع في اتجاه التخلص من كل العوائق والتدخلات الخبيثة ذات الأهداف التخريبية.
أمام قمة مجموعة العشرين الكثير من الملفات سواء تلك التي تم الوصول إلى الشكل النهائي لها، أو تلك التي لا تزال في طور التشكيل. وعلى الرغم من الطابع الاقتصادي الغالب عليها، إلا أن الملفات السياسية هي التي تؤثر سلباً أو إيجاباً في المنجزات الاقتصادية. فلا يمكن أن يكون هناك اقتصاد عالمي مستقر، في حين أن النزاعات تنتشر في كل مكان تقريباً بأشكال مختلفة على الساحة الدولية. وليس مهمّاً أن تسيطر مجموعة العشرين على 90 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي العالمي، و80 في المائة من حجم التجارة العالمية، إذا كان هذا الناتج مهدداً أو متأثراً بقضايا لا تزال مفتوحة، ويمكن لبلدان كبرى كبلدان المجموعة أن تغلقها بما يضمن مصلحة كل الأطراف.
قمة أنطاليا في تركيا يمكن أن تمثل تحولاً كبيراً على صعيد مجموعة العشرين، إذا ما تمت معالجة القضايا الاقتصادية والسياسية بشفافية، والأهم بما ينعكس إيجابياً على العالم أجمع في المستقبل. إنها قمة ترسم معالم هذا المستقبل. وسيكون من الصعب إنجاز هذه "اللوحة"، بمعزل عن تفاهم حقيقي بين دولها.
