سباق التكتلات الاقتصادية

هناك تحولات اقتصادية في العالم بدأت منذ انطلاق الأزمة المالية في عام 2008. وهذه التحولات يجب أن تكون محل المتابعة من قبل كل المهتمين بالشأن الدولي سواء على الجانب السياسي أو الاقتصادي، حيث إن لها تبعات على موازين القوى العالمية. فبروز الاقتصاد الصيني وتجاوز حجمه لحجم الاقتصاد الأمريكي حسب معادل القوة الشرائية يدل على أن هناك احتمالات لسحب بساط التأثير الاقتصادي العالمي من الولايات المتحدة الأمريكية، وبروز الصين كقوة اقتصادية لها وزنها الدولي، ولها أيضا حلفاؤها الذين يشتركون معها في النهم والتعطش لدور أكبر في حوكمة الاقتصاد العالمي. ومنذ الأزمة المالية العالمية بدأت مجموعة البريكس BRICS في تقديم نفسها على أنها تجمع اقتصادي - وتطورت فيما بعد إلى تجمع سياسي أيضا – يستحق أن يكون له صوت أقوى في المنتديات الاقتصادية العالمية، هذا على الرغم من أن هذا التجمع يضم دولا تتناقض وتتنافس في عديد من الجوانب الاقتصادية والسياسية. والأمريكيون يعرفون أهمية التأثير الاقتصادي العالمي وأنه مرادف للتأثير العسكري والسياسي، بل إن التاريخ أيضا يؤكد أنه قد يكون أكثر فعالية من الأخيرين. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية استطاعت الولايات المتحدة فرض قرارها الاقتصادي بما لديها من موارد مالية ضخمة ساعدت بها في إعمار أوروبا، وفرضت الدولار كعملة الاحتياط الرئيسة الأولى في العالم بدلا من الجنيه الاسترليني. كيف ذلك؟ الأمر لم يكن بسيطا وتطلب مهارات تفاوض أدارها الأمريكيون مع ممثلي بريطانيا العظمى بفعالية، واستطاعوا في مقابل الدعم المالي لبريطانيا العظمى والدول الأوروبية إلغاء الميزات التجارية التفضيلية للمستعمرات البريطانية، التي كانت تمثل منطقة سيادة للجنيه الاسترليني، وفرض نظام نقدي عالمي جديد يقوم على الدولار الأمريكي المرتبط بالذهب.
وهذا ما تعلمه الأمريكيون من التاريخ، فالطريقة المثلى للتعامل مع تزايد النفوذ الاقتصادي الصيني هو الاحتواء لمنافسي الصين من جهة والعمل في المناطق المحتملة لهذا النفوذ بشكل أكثر فعالية، وبالتحديد في منطقة جنوب شرقي آسيا. ومنذ خمس سنوات بدأ الأمريكيون مفاوضات صعبة للغاية لتكوين تكتل اقتصادي جديد بين الدول المطلة على المحيط الهادي يطلق عليه الشراكة عبر المحيط الهادي Trans Pacific Partnership، وأخيرا تم اختتام هذه المفاوضات التي استثمر فيها الأمريكيون كثيرا من السياسة والمهارات التفاوضية التي اكتسبوها خلال سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية. هناك 12 دولة تنتظم في هذا التكتل تتمثل في كل من الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، والمكسيك، وتشيلي، والبيرو، واليابان، وفيتنام، وسنغافورة، وماليزيا، وبروناي، ونيوزيلاند، وأستراليا. هو الآن يعد التكتل الاقتصادي والتجاري الأكبر في العالم، حيث يضم 800 مليون نسمة من سكان العالم، و 40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ويهدف الاتفاق إلى تعزيز الروابط الاقتصادية بين الدول الأعضاء في التكتل، وتخفيض التعريفات الجمركية، وزيادة التبادل التجاري، لتعزيز النمو الاقتصادي. ويغطي هذا الاتفاق الذي تربو صفحاته على الـ 1000 صفحة تفاصيل دقيقة من التعامل الاقتصادي بين هذه الدول، بما يشمل الدخول إلى الأسواق، والتعرفة الجمركية، والاستثناءات، وانتقال الأفراد، وتشمل سلعا كالسيارات والسلع الزراعية والمنتجات الدوائية، إضافة إلى جانب واسع من قطاع الخدمات. وتمهد هذه الاتفاقية لإيجاد أكبر سوق موحدة لتنافس بذلك الاتحاد الأوروبي. ويأمل الموقعون على هذه الاتفاقية بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية أن تضع هذه الاتفاقية القواعد الرئيسة للتعامل التجاري العالمي، وأن تفرض عقوبات على مخالفة هذه القواعد.
الرئيس الأمريكي باراك أوباما احتفى بالتوصل إلى هذه الاتفاقية التي يأمل أن يسجلها التاريخ الأمريكي باسمه، على الرغم من أن المصادقة عليها من قبل الكونجرس الأمريكي لن يكون أمرا يسيرا وقد لا يتم خلال الفترة المتبقية لرئاسته. لكن كما أشار الرئيس الأمريكي (فإنه عندما يكون 95 في المائة من الزبائن المحتملين خارج الولايات المتحدة الأمريكية، فإنه لا يمكن الوقوف موقف المتفرج بينما تضع الصين قواعد التعامل الاقتصادي العالمي). وهو يؤكد ما أشرت إليه أعلاه، أن الهدف هو الاحتواء ووضع تكتل اقتصادي يجعل مهمة الصين لارتقاء العتبة الأخيرة في سلم الريادة الاقتصادية العالمية صعبا جدا، بحيث يفرض عليها الالتزام بالقواعد التي ترغب الولايات المتحدة الأمريكية في وضعها. بالطبع هذه القواعد ستؤدي إلى التأثير على الميزات النسبية التجارية للصين، حيث ستفرض قواعد صارمة في التعامل مع براءات الاختراع ومع حقوق العمالة التي تتهم الصين بإخلالها بهذه القواعد لاكتساب ميزات نسبية تمكنها من تحقيق التفوق التجاري مع الدول الأخرى. لكن الصراع على موقع الصدارة والقيادة الاقتصادية مع الصين لن يكون سهلا أيضا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية حيث إن التجربة الأخيرة للصين في تأسيس البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية وجري الكثير من الدول الأوروبية للانضمام لهذا البنك مثل تحديا كبيرا للولايات المتحدة واختبارا صعبا لتأثير الولايات المتحدة على أقرب حلفائها. فبريطانيا – الحليف الأقرب لها - بدأت هذا الجري وتبعتها الدول الأوروبية الأخرى، وبريطانيا التي تشعر بعزلة داخل الاتحاد الأوروبي الآن تسعى إلى تعزيز التعاون الاقتصادي مع الصين بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ البلدين. وقد تكون الصين في المقابل تريد استعادة التاريخ وتريد أن تقلب الطاولة على الولايات المتحدة الأمريكية للحد من نفوذها على النظام النقدي الدولي – كما فعلت أمريكا ذلك معها سابقا - عندما تحين الفرصة المناسبة. في النهاية، كل هذه الاقتصادات الكبرى تسعى إلى وضع بذور لزرع لن تحصد ثمره خلال عام أو عامين، ولكنها تؤسس لحصد ثمار هذا الزرع من قبل أجيال مقبلة. مسؤولو التجارة في بلدان منطقة الشراكة عبر المحيط الهادي عملوا على مدار خمس سنوات لوضع هذه البذور التي ستفتح المزيد من الأسواق وستوجد الكثير من الفرص التجارية وستزيد من التبادل التجاري بين هذه الدول، وبالتالي ستوجد المزيد من الوظائف والنمو الاقتصادي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي