غالبا ما يكون من الصعب في أعقاب الصراعات الطويلة استعادة الأمن والحد من الجريمة والعنف، خاصة فيما بين الشباب الفقراء. في ليبريا، يجري مختصو التنمية بحوثا حول أكثر الطرق فاعلية لدعم الأفراد الأكثر تعرضا للخطر، وقد يكونون وجدوا نهجا فاعلا يجمع بين العلاج والمال. ويتمثل أحد مباعث القلق الأكثر إلحاحا في مناطق ما بعد انتهاء الصراعات في كيفية مساعدة الأفراد على العودة إلى الحياة السلمية. فبعد انحسار الصراعات، عادة ما تنتشر الأسلحة الصغيرة، وتخرج الاقتصادات المحلية والوطنية مدمرة، ويبدأ الضغط النفسي للعنف يأخذ أشكالا جديدة.
ويواجه الجنود السابقون بوجه خاص متاعب في الانتقال وهم يصارعون مشاعر الألم والرعب التي عاشوها، وينسى العديد منهم كيف يشاركون في مجتمعاتهم مرة أخرى. واستجابة لذلك، يسعى مجتمع التنمية الدولي في أحوال كثيرة إلى "تمكين" هؤلاء الرجال بتوفير فرص عمل ووظائف لهم. تقول النظرية إن الناس إذا انشغلوا بالعمل، فإنهم لن يجدوا وقتا أو وازعا لارتكاب الجرائم.
ومع هذا، فإن توفير الوظائف ببساطة قلما يكون كافيا. وتحفز شبكة التمكين والمبادرة التقدمية، وهي منظمة عاملة في مونروفيا بليبريا، هذا النموذج، وتعمل على مساعدة الرجال الذين شاركوا في السابق في الحربين الأهليتين اللتين شهدهما هذا البلد بإعادة تأهيلهم من خلال العلاج.
كان كلوبوسومو جونسون بور، مؤسس الشبكة، هو نفسه مراهقا في ليبيريا عندما تم تجنيده في جيش التمرد الوحشي سيئ السمعة الذي كان يقوده تشارلز تيلور. عُين بور قائدا وتولى الإشراف على جنود كانوا أصغر منه سنا. بنهاية الصراع، الذي استمر من 1989 إلى 2003، كان 10 في المائة من السكان تقريبا قد لقوا حتفهم، وأصبح الآلاف من الأطفال الذين جندوا آنذاك رجالا اليوم. ويواجه العديد من هؤلاء الرجال متاعب في التخلص من سلوكياتهم العنيفة التي اكتسبوها خلال الحرب. ولذا ساعد بور على إطلاق شبكة التمكين والمبادرة التقدمية؛ بغية إعادة تأهيل هؤلاء وآخرين من الرجال الذين يعانون المتاعب.
تطبق الشبكة برنامجا لمدة ثمانية أسابيع يتدرب خلالها هؤلاء الشباب على كبح مشاعر الغضب والتحكم في النفس، باستخدام النوع ذاته من التدريبات العلاجية وتقمص الأدوار التي تطبقها برامج العلاج السلوكي الإدراكي في مختلف أنحاء العالم. وبدلا من التركيز على إيجاد وظائف للمتعاملين معها، تركز الشبكة على تغيير صورة الرجال الذين تعمل معهم حتى يتم إثناؤهم عن ارتكاب جرائم بغض النظر عما إذا كانوا يعملون أم لا يعملون. وتحقق الشبكة ذلك من خلال مساعدة الرجال على تعلم ضبط النفس، من ناحية عواطفهم ومن ناحية التخطيط للمستقبل وتحديد الأهداف. كما تساعد الرجال على أن ينظروا إلى أنفسهم باعتبارهم "أسوياء"، وأفرادا مساهمين في المجتمع وليسوا منبوذين. وقد أدى هذان الأمران- بناء قدراتهم على ضبط النفس، وتعزيز التغيرات الإيجابية في صورتهم عن أنفسهم – إلى تقليص معدل الجرائم التي يرتكبها هؤلاء الرجال المشاركون. وقلت احتمالات حملهم للسلاح أو ارتكابهم لجرائم السرقة، وهذا التراجع لم يأت ببساطة من ارتكاب جرائم أقل (رغم أن هذا كان جزءا منه)، ولكن أيضا من توقف بعض الأفراد تماما عن ارتكاب الجرائم.
ومع هذا، ففي الوقت الذي نجح فيه العلاج في تقليص معدل الجرائم، فإن الآثار لم تدم كثيرا في كثير من الأحيان.
وقد جذبت هذه النتائج انتباه كريس بلاتمان، أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا والعالم السياسي الذي أراد أن يفهم بشكل أفضل الآليات التي أمكن للشبكة أن تحقق من خلالها معدلات النجاح التي حققتها، حتى لو كانت قصيرة الأمد. ظل بلاتمان يتنقل بين الولايات المتحدة وليبيريا على مدى سنوات عديدة، متعاونا مع بور. وانضم إلى بلاتمان متعاونان- هما, جوليان جيميسون، المختص الاقتصادي الذي يعمل لدى مكتب الحماية المالية للمستهلك، ومارجريت شيريدان، أستاذة علم النفس في كلية طب هارفارد- اللذان ساعدا هذه المنظمة على تنقيح مناهجها وجمع التمويل لتضيف التحويلات النقدية إلى برنامجها. ووضع ثلاثتهم دراسة لكي يحددوا ما إذا كانت إضافة التحويلات النقدية يمكن أن تطيل من فترة تأثير العلاج. وقد نشروا نتائجهم في وقت سابق من هذا العام في ورقة بحثية بعنوان: "الحد من الجريمة والعنف.. شواهد تجريبية على الاستثمارات غير الإدراكية للكبار في ليبيريا".
وبدأوا بالبحث عن رجال شاركوا في أعمال العنف والجرائم في مونروفيا، وبتجنيدهم للمشاركة في دورة تدريبية جديدة بعنوان: "التحول المستدام للشباب في ليبيريا"، امتدت ثمانية أسابيع من العلاج السلوكي الإدراكي، وتضمنت تقديم مبلغ 200 دولار دفعة واحدة، أي ما يعادل نحو ثلاثة شهور من الأجور في ليبيريا، وذلك بعد نحو أسبوع من استكمال الدورة التدريبية. وأجروا تجربة ضبط استنادا إلى عينة عشوائية مؤلفة من ألف رجل، وقسموهم إلى أربع مجموعات: مجموعة تلقت أموالا نقدية فقط؛ مجموعة خضعت فقط للعلاج السلوكي والإدراكي؛ مجموعة تلقت الأموال النقدية والعلاج السلوكي والإدراكي معا؛ ومجموعة لم تخضع لأي تدخلات (مجموعة الضبط). وأجروا مسحا للرجال قبل وبعد الدورة العلاجية التي امتدت ثمانية أسابيع، واستمروا في اللقاء بهم أربع مرات على مدى العام التالي.
وجاءت النتائج مشجعة للغاية: كان الجمع بين تقديم الأموال النقدية المباشرة والعلاج طريقة فاعلة ومؤثرة في إعادة تأهيل المجرمين. فقد تراجع السلوك الإجرامي بدرجة كبيرة بين كل المجموعات التي شهدت تدخلا؛ ولكن بعد عام، فإن من تلقوا مبالغ نقدية والعلاج السلوكي الإدراكي كانوا هم الذين توقفوا عن إثارة المتاعب.
مع هذا، قد فوجئ بالسبب في النتائج الأطول أجلا. فالعديد من الرجال الذين حصلوا على تحويلات نقدية أنشأوا أنشطة أعمال جديدة، واستثمروا فيها الأموال أو ادخروها. كما أن كثيرا منهم إما تعرضوا للسطو وإما فشلت مشاريعهم. ومن ثم فلم يكن ارتفاع معدلات التوظيف أو المستوى المالي لديهم هو ما منعهم من ارتكاب جرائم.
بل إن الرجال الذين تلقوا العلاج وحصلوا على التحويلات النقدية تصرفوا "بطريقة سوية" فترة أطول. ووفقا لبلاتمان وزملائه، فقد وضعوا مناهج ضبط النفس والتخطيط التي تعلموها في العلاج موضع التنفيذ لاتخاذ قرارات واعية بشأن كيفية إنفاق هذه الأموال. بل على العكس، لم تكن لديهم الرغبة في السرقة أو ارتكاب جرائم أخرى توحي إليهم وإلى مجتمعاتهم المحلية بأنهم ما زالوا مجرمين. ومن ثم، حتى إذا كانت أموالهم قد سرقت بعد عدة شهور، فقد تمكنوا من قضاء هذه الشهور القليلة في تطبيق المهارات التي تعلموها أثناء العلاج.
ومن الواضح أن هذه النتائج تتعلق بسياق محدد للغاية. ولتطبيق هذه الممارسات على مناطق أخرى خارجة من الصراع، ستكون هناك حاجة إلى إجراء بحوث لتحديد أساليب العلاج واستراتيجيات الإصلاح الأكثر فاعلية لكل منطقة على حدة. بيد أن النتائج تشير إلى شيء مهم للغاية - أن الناس تحتاج إلى المهارات العاطفية والعملية لإصلاح حياتهم.
