قصة تعقيم المياه «1» .. جون سنو وذراع المضخة

عند مرورك بشارع برودويك في منطقة سوهو الراقية في غرب لندن الشهيرة بشركات الإنتاج الإعلامي الضخمة ربما تلاحظ وجود مضخة بئر على جانب الرصيف. هناك شيئان مميزان في هذه المضخة، الأول أنها قديمة ولا تنتمي لهذه الحقبة ولا لهذه المنطقة الارستقراطية حيث إنها من بقايا القرن الثامن عشر وبالتالي فإن مجرد وجودها هنا أمر يسترعي الانتباه ولا ريب، والآخر أنها مضخة من دون أهم جزء فيها وهو ذراع الضخ. فإن كان وقت مرورك هو شهر أيلول (سبتمبر) فستلاحظ بالقرب من المضخة وفي بيت يدعى (جون سنو) إقامة محاضرات في الصحة العامة بعنوان (ذراع المضخة) والمقصود هو ذات المضخة التي تقف بجانبها! فما قصة هذه المضخة العجيبة. هذه المضخة موجودة منذ أكثر من 200 سنة؛ لأنها كانت السبب في القضاء على الأوبئة التي تنتقل عن طريق الماء الملوث وتحديدا الكوليرا وهو ما أسهم في حماية لندن من وباء الكوليرا الشهير في عام 1854.
في العصور الوسطى وحتى القرن التاسع عشر كان لدى العلماء مفهوم مختلف وخاطئ عن سبب حدوث الأمراض ـــ والأوبئة ـــ وكيفية انتشارها.
في البداية كان الاعتقاد السائد هو أن الأمراض هي نتيجة عدم توازن بين (الأخلاط الأربعة) أو السوائل المختلفة في الجسم وهي نظرية إغريقية قديمة ـــ وبعض المصادر تنسبها للهنود. لكن لم يلبث الأطباء أن تحولوا إلى نظرية جديدة لقيت قبولا عالميا وهي النظرية المعروفة بالاسم الإغريقي (مياسما Miasma) وتعني نظرية التلوث أو الهواء الفاسد. تقضي هذه النظرية بأن الأمراض تنشأ من تحلل المواد العضوية ما يتسبب في تكوين الهواء الفاسد وكل من يتعرض لهذا الهواء يمرض.
انتشار نظرية مياسما وقبولها في ذلك العصر لم يمنع ظهور علماء معارضين لها كالعالمين الإيطاليين كباسي وريدي. الأخير قام بتجربة أثبتت صحة شكوكه، حيث وضع بيضا وخبزا في وعاءين أحدهما مقفل تماما والآخر مفتوح. لاحظ بعد عدة أيام وجود ديدان وبعوض في الوعاء المفتوح فقط. ذكر حينها أن لو كانت نظرية مياسما صحيحة لظهرت الديدان في الوعاء المقفل حين تحللت المادة العضوية أيضا ولظهر الهواء الفاسد. توقع ريدي وجود كائنات صغيرة غير مرئية مسببة للمرض. لم يتم إثبات وجود هذه الكائنات "وهي المعروفة حاليا كالبكتيريا والفيروسات" إلا في عام 1675 بواسطة العالم الهولندي الشهير أنتون فان ليونهوك في بلدة دلفت.
بالعودة إلى سوهو اللندنية حيث ظهر وباء الكوليرا في نهاية آب (أغسطس) من عام 1854 حاصدا أكثر من 500 وفاة في غضون عشرة أيام فقط. لاعتقاد الأطباء بنظرية (المياسما) أو الهواء الفاسد، فقد اتخذوا الإجراءات المعتادة التي لم يكن لها أي تأثير؛ لأنها لم تعالج أساس المشكلة. ولهذا وفي محاولة لإيقاف هذا الوباء، فقد استعانت الحكومة البريطانية بأحد أشهر الأطباء المعروفين في ذلك الوقت وهو الإنجليزي جون سنو المولود في يورك عام 1813 الذي كان يبلغ من العمر 41 سنة آنذاك.
لم يعرف جون على وجه الدقة كيفية انتقال الكوليرا أو غيرها من الأمراض الشائعة آنذاك لكنه لم يكن مؤمنا بنظرية مياسما. فكان يتساءل ببساطة، لو كان الوباء ينتقل عن طريق الهواء الفاسد فكيف يكون أحد أفراد أي عائلة مصابا في حين يبقى الآخرون أصحاء؟
قرن جون بين الإصابة بالمرض وشرب الماء الملوث بعدما رسم خريطة توضح أماكن الإصابات الأولية بالكوليرا في لندن ـــ عرفت أدبيا بخريطة الشبح وعدت من أسس علم الأوبئة لاحقا. فقد لاحظ أن الأغلبية العظمى من الإصابات حدثت لأشخاص كانوا يستخدمون المضخة الواقعة في شارع برودويك. "كانت الإصابات لمستخدمي المضخات الأخرى قليلة جدا" كما وصف جون ذلك في خطابه إلى مجلة التايمز الطبية "حتى الأشخاص الذين يسكنون بعيدا عن المنطقة وتوفوا بالكوليرا، ثبت أنهم شربوا من مضخة شارع برودويك" اتضح فيما بعد أن هذه المضخة قد أقيمت على بعد متر واحد فقط من مدفن لمياه الصرف الصحي لبيوت الحي ما أدى إلى تلوثها.
ونتيجة لتقرير سنو قامت البلدية بعد ذلك بإزالة ذراع المضخة في خطوة عدها المؤرخون السبب المنقذ للندن من داء الكوليرا الفتاك. كانت أبحاث سنو التي أثبتت انتقال الكوليرا عن طريق الماء الملوث بالبكتيريا فتحا جديدا وأساسا مهما لعلم الأوبئة الحديث Epidemiology. لم يرض الكثيرون من معتنقي نظرية مياسما في ذلك الوقت بنتائجه حتى أن الحكومة وصفت نظريته بانتقال الأمراض القاتلة عن طريق الماء الملوث بالبكتيريا بأنها "محبطة للغاية". أبحاث جون سنو وما سبقها من اكتشاف الميكروبات عن طريق أنتون فان ليونهوك وما تبعها من أبحاث لعلماء أفذاذ مثل لويس باستير وجوزيف ليستر وروبرت كوخ أدت إلى سقوط نظرية المياسما وظهور نظرية الجراثيم أو جرثومية المرض The Germ Theory التي ربطت الأمراض بالإصابة بأنواع محددة من الميكروبات التي تنتقل في الهواء أو الماء.
أثبتت الأيام ــــ وأبحاث العلماء لاحقا ـــ صحة معتقد جون سنو بأن الماء الملوث بالبكتيريا المرضية هو ناقل خطر للأمراض. وكانت أبحاثه سببا في ظهور وتطور علم تعقيم المياه الذي قضى على الكثير من الأوبئة كالكوليرا وغيرها وأسهم في الحفاظ على حياة الملايين من البشر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي