"سلم على الإمام، وأخبره بما رأيت، واسأله الدعاء لنا، وقل له: موعدنا إن شاء الله في الرياض". بهذه الكلمات الواثقة رد الشاب المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود على مبعوث والده الذي أشفق عليه وعلى من معه من رجال، طالبا منهم العودة إلى الكويت. بعد أن علم بالمشقة والمضايقات التي لقيها الشاب الصغير عبدالعزيز (20 عاما) ورجاله في طريقهم لاستعادة الرياض من "بن عجلان" عامل ابن رشيد.
روح الشباب
أما ما رآه المبعوث فهو إصرار رجال عبدالعزيز على مواصلة الطريق، بعد أن استشارهم الأمير الشاب في الأمر؛ طاعة لأمر الوالد، وإنصافا لمن شق عليه الطريق، وأراد العودة إلى أهله. لتكون هذه المغامرة الجريئة، المفتوحة على كل الاحتمالات، والمطعمة بروح الشباب وفروسيته، نواة لتأسيس الدولة السعودية الثالثة. فعلى الرغم من تراجع الدولتين السعوديتين الأولى والثانية، إلا أن مقومات عودة الحكم السعودي كانت لا تزال حاضرة في نفوس أهل المنطقة، الذين كانوا يحنون بشكل متزايد لتلك الدولة، ذاكرين ومدينين لأسرة آل سعود بالولاء والفضل. خصوصا مع سوء إدارة بن عجلان، والحملات العسكرية المستمرة على نجد وساكنيها من قبل الدولة العثمانية في تلك الفترة.
#2#
ترحيب شعبي
ليأتي ظهور الشاب عبدالعزيز، بشخصيته المميزة، وبحرصه على استعادة حكم الآباء، في ظرف مناسب شعبيا. ولكنه صعب، إن لم يكن مستحيلا، إقليميا وسياسيا، فالأطماع المحيطة لا تتوقف. والقتال على اقتسام الزعامات القبلية برعاية الممالك الحاكمة والمتنازعة آنذاك، في ازدياد وتوسع هو أيضا. لكن هذا القبول والترحيب الشعبي الذي علم به عبدالعزيز ورجاله سلفا هو ما أكد لهم أن المسافة بينهم وبين حكم الرياض، على خطورتها، هي بوابة حصن المصمك، وأسوار قصره المغلقة، على حاكم لا يحظى بشعبية وشرعية، بقدر ما يحظى بالكثير من الحماية الأمنية، حتى من أفراد يفترض فيه أن يكون حاميا لهم لا خائفا منهم. وكان رهان الشاب عبدالعزيز صائبا، إذ انتهت المعركة على بوابة المصمك، في محاولة أخيرة من بن عجلان للدخول والاحتماء خلف أسواره العالية، إلا أن عبدالعزيز ورجاله كانوا أكثر إقداما وبسالة فأوفوا بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم ليتجدد "موعد الرياض" مع أبنائها وحكامها.
#3#
نواة الشورى
لتعود بوابة المصمك، حتى يومنا هذا، رمزا للقبول الشعبي، وللإرادة الحازمة الفتية، بقيادة خادم الحرمين الملك سلمان بن عبدالعزيز، الذي اختار لحكومته دماء شابة منذ اليوم الأول لتوليه سدة الحكم في إشارة واضحة لا تختلف فيما تقدمه من رسائل إيجابية عما قدمته إرادة المؤسس الشاب وإدارته لهذه البلاد. إذ عرف الملك عبدالعزيز بمجالسه المفتوحة لعموم المواطنين والعلماء والمثقفين. كمجالس شورى مصغرة يطرح فيها للتشاور كل ما يهم البلد ومواطنيه. ورغم المخاطر الأمنية التي استمرت عقب استعادة الرياض، ومواصلة المسير من أجل توحيد باقي المناطق، إلا أن المؤسس لم يكن خوفه على نفسه كفرد بالأمر الوارد أصلا. كيف لا وهو من قاد معركة استعادة الرياض بنفسه لآخر لحظة. وبحسب ما يرويه كثير ممن رافقوه. فإن مجالسه لم تكن تخلو من سؤال المواطنين عن حاجاتهم. كما أنه لم يكن ليطمئن دون سؤال أعيان الوفود الزائرة من مختلف المناطق عن مدى قبولهم به حاكما عليهم. إذ اشتهر عنه قوله بأنه "لا يريد لنفسه أن يكون حاكما على قوم له كارهون".
حنكة الرجال
شجاعة الملك عبدالعزيز والكاريزما الشعبية التي مهدت لتأسيس الدولة السعودية الثالثة لم تكن محصورة في البسطاء والعوام فقط. بل امتدت لتشمل كثيرا من السياسيين والأدباء والمثقفين. فبالحدس الفطري الثاقب ذاته الذي كان يجيد من خلاله اختيار من يرافقوه في الحروب. كان المؤسس يعرف أيضا كيف يختار مبعوثيه ووزراءه ومستشاريه الذين أسهموا معه في بناء الدولة إداريا وسياسيا، بل ثقافيا أيضا. فتنوعت مشاربهم ولم تكن الجنسية أو المرجعية لتقف عائقا بينه وبين استشارته لهم أو ثقته بهم. لتكون الكفاءة هي الفيصل والمعيار. فكان هناك من لهم دور إداري أو مالي بارز في مرحلة تأسيس الدولة، مثل ابن سليمان وشلهوب، ورشاد فرعون وكان هناك المترجمون والإعلاميون من أمثال عبد الله بلخير وعلي النفيسي وأحمد عبد الجبار إضافة إلى أسماء شهيرة مثل فيلبي ومحمد أسد والريحاني. ومن السياسيين والدبلوماسيين البارزين يذكر ابن معمر وابن دغيثر، وفؤاد حمزة.
#4#
وهنا لا بد أن يذكر الدكتور عبدالرحمن الشبيلي إعلاميا، بكثير من الإجلال والتقدير. فقد وثق لأسماء كثير من الرجال الذين عاصروا المؤسس مع تصنيف واضح لطبيعة أعمالهم وفترات مرافقتهم للمؤسس في أوراق صحافية وبحثية ألقيت في عديد من المناسبات، بالإمكان أن تكون منطلقا لعمل كتاب توثيقي شامل وملم عن هؤلاء الرجال، والأهم عن فريق عمل مؤسسي متكامل.
حضور لافت
وامتدادا لهذا العمل المؤسسي اللافت سياسيا ـ في زمن تتقاذفه الأزمات والحروب العالمية ـ يمكن الإشارة أيضا إلى كثير من اللقاءات الصحافية مع المؤسس. أجرتها معه صحف عالمية وعربية ومحلية. مثل مجلات "التايم"، و"لايف"، و"صوت الشرق"، التي تصدر الملك أغلفتها الأولى. إضافة إلى "صوت الحجاز"؛ الصحيفة المحلية الأهلية الناشئة حينها، التي حظيت هي أيضا بلقاء مع الملك عبدالعزيز. ما يدل على اهتمام عالمي بقصة نجاح هذه الدولة الفتية، من جهة. وإدراكا من قبل المؤسس وفريق عمله لأهمية الإعلام وتأثيره في مسيرة هذه الدولة، من جهة أخرى. يبقى أن قصة نجاح هذا العمل المتراكم ثقافيا وتاريخيا، بقيادة المؤسس، استمرت مع قيادات الدولة المتعاقبة وملوكها. لتتجلى هذه النجاحات حاضرا، في دولة لها ثقلها الدولي والإقليمي، على المستويين الاقتصادي والسياسي. حتى أصبحت الرياض محط أنظار العالم وزعمائه، وعند "الوعد" دائما، وفية لقضايا أمتيها العربية والإسلامية.




