Author

المنظومة الإدارية للتنمية الوطنية

|
هناك مساع حثيثة لمواجهة التحديات التي تواجه المجتمع والدولة، ولكن التحدي الأكبر في النهج الإداري الذي يمكن وصفه بأنه متفرق ومتضاد في بعض الأحيان. فإذا لم تكن هناك منظومة إدارية متكاملة يكون القرار العام هزيلا قليل التأثير ولا يحقق الأهداف التنموية. وبنظرة فاحصة تحليلية نجد أن هناك سياسات وخططا وإنفاقا سخيا من الدولة لكنه غير متسق وغير متكامل ولا مترابط وغير متناغم. فصناديق الاستثمار على سبيل المثال لم يتم ربط قروضها بالمصالح الوطنية العليا وإنما تراوح في دائرة ضيقة جدا ورؤية قاصرة تسعى فقط إلى تحقيق الأهداف البيروقراطية لتلك الصناديق. فعلى الرغم من المليارات التي تم إقراضها للمستثمرين إلا أن ظاهرتي البطالة والفقر في تنام، ونجد أنفسنا حائرين نتساءل كيف يكون لدينا فقراء وعاطلون عن العمل والدولة تضخ المليارات في الاقتصاد الوطني. بل إعادة السؤال بتساؤلات وبعبارات أكثر دقة، كيف يكون اقتصادنا وصناعتنا ضعيفين لا يستوعبان خريجي الجامعات والمعاهد على الرغم من الإنفاق السخي للدولة؟ كيف نعجز عن معالجة مشكلة الإسكان وقد رصد لها المليارات؟ والسؤال التقريري ما العائق الذي يحول دون تحقيق الرؤية والإرادة السياسية؟ هذه تساؤلات كبيرة وتحتاج إلى إجابات عميقة وجريئة تتناول منظومة العمل الحكومي وكيفية تطوير إجراءات القرار العام ليكون أكثر تركيزا وتكاملا واستجابة وقادرا على رؤية المشكلات بشمولية ليكون الحل شموليا ناجعا. لا شك أن هناك تشرذما بيروقراطيا دون مراقبة مجتمعية عبر المجالس النيابية التي ما زالت صلاحياتها وأدوارها محدودة وضعيفة. كما أن المركزية الشديدة أضعفت من كفاءة القرار الحكومي وجعلته يقصر عن تحقيق التنمية المحلية المستدامة. فذهبنا نعالج ظواهرها المتمثلة في البطالة والفقر ولم نستطع إدراك جذور المشكلة وهو فقدان منظومة عمل حكومي متكاملة في إطار استراتيجي وطني كخريطة طريق. لقد وجدت الأجهزة الحكومية نفسها عاجزة عن الإنجاز دون تعاون الأجهزة الأخرى فبادرت نحو توقيع اتفاقيات تفاهم للتنسيق فيما بينها في عمل تشاركي. إلا أن تلك المحاولات تختزل في تذليل العقبات التي تواجه تنفيذ الإجراءات الروتينية ومعالجة مشكلات بيروقراطية ليس إلا. وفي المقابل هناك تقاذف للمسؤوليات بين بعض الأجهزة تحررا من المسؤولية أو تبريرا للإخفاق والعجز عن تقديم الخدمة المطلوبة. كل ذلك يحدث في فراغ إداري دون مساءلة ومحاسبة مجتمعية يتبعه ضعف في النظام المالي والرقابة الإدارية والمالية بأنواعها. وإذا لم تكن الرقابة على الأداء مرتبطة بالتأثير النهائي وتوقفت عند الإجراءات الورقية الروتينية فهذا مكمن الخلل. ولذا من الخطأ والظلم أن نطالب الأجهزة الحكومية بتحقيق أهداف لم ترسم، أو معالجة مشكلات لم تتضح، أو مساءلتها عن النتيجة وهي لا تملك إلا جزءا من الجهد في الوصول إليها. فلا يصح على سبيل المثال أن نتوقع أن التعليم وحده يعالج مشكلة البطالة أو أن وزارة التجارة والصناعة تستطيع ذلك وحدها أو أي وزارة أخرى، فالجميع فريق عمل واحد وبالتالي إذا لم يكن هناك تحرك وجهد جماعي فلن نتمكن من معالجة مشكلاتنا الاجتماعية والاقتصادية. هذا بطبيعة الحال يحتاج كما ذكرنا سابقا إلى منظومة عمل مشترك ورؤية متفق عليها وقناعة جماعية وتغليب المصلحة الوطنية العليا على المصالح البيروقراطية. لابد من إعادة النظر في نظامنا الإداري الحكومي خاصة فيما يتعلق بتقاسم الأدوار والصلاحيات بين الأجهزة التنفيذية والمجالس النيابية (الشورى، المناطق، المحلية، البلدية) حيث تمنح المجالس النيابية صلاحيات نافذة توجه تلك الأجهزة وتخضع لرقابتها. وهذا يستدعي تطبيق اللامركزية لتقريب صاحب القرار الحكومي إلى المواطن وهي أجدر في معالجة المشكلات المحلية وتحقيق التنمية في المحليات. لكن إلى حين إجراء التطوير المطلوب سيكون من المستحسن تحديد الوزارات الأكثر تماسا مع القضايا المعيشية اليومية للمواطن وذات تأثير قوي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وهي كما أظن التعليم، والاقتصاد والتخطيط، والمالية، والشؤون الاجتماعية، والتجارة والصناعة، والإسكان، والشؤون البلدية والقروية. ويقترح أن تقدم تلك الوزرات قائمة بالأولويات الوطنية وتصورا مشتركا لما ينبغي عمله وتوزيع الأدوار وخطة عمل مشتركة تلتزم جميع الأطراف بتنفيذها ويتم متابعتها من قبل مجلس الشؤون الاقتصادية. لقد بادرت وزارة التعليم بالاشتراك مع وزارة الشؤون الاجتماعية بوضع خطة عمل مشتركة إيمانا من الوزارتين بأن التعليم رافد أساس في مواجهة التحديات المجتمعية. أتمنى أن ينطلق هذا التعاون من رصد الاحتياجات إلى استكشاف الإمكانات الكبيرة التي تقدمها الدولة والاستفادة منها في تحقيق مشروع التعاون بين الوزارتين مثل الاستفادة من صناديق الاستثمار في إنشاء مشاريع ريادية تتولى وزارة التعليم تدريب واحتضان المشاريع الصغيرة الريادية وتتكفل وزارة الشؤون الاجتماعية بالمساهمة بتمويل تلك المشاريع لتتحول المعونات من مساعدات مباشرة للفقراء إلى توليد وظائف تزيد من إنتاجيتهم كأفراد وتتاح لهم الفرصة للمساهمة في التنمية الوطنية والاستفادة من الإنفاق السخي للدولة والأهم تبعدهم عن ذل المسألة. وفي هذا السياق تستطيع الجامعات أن تسهم في تقديم خدمات تعليمية وتدريبية مهنية عبر عمادات خدمة المجتمع موجهة لأبناء الأسر الأقل حظا. ولتحقيق الشراكة الفعلية مع المجتمع يكون من الأفضل أن تحوي تلك العمادات مجالس يكون أعضاؤها من داخل الجامعة وخارجها لتوجيه البحوث والدراسات واقتراح الحلول للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية. كل ذلك يتطلب نظرة متكاملة ومنظومة عمل مشترك بين الأجهزة الحكومية لضمان الوصول للأهداف التنموية الوطنية.
إنشرها