Author

الإدارة الحكومية بين القبول السياسي والكفاءة الاقتصادية

|
من أهم التحديات التي تواجه صاحب القرار الحكومي هو المفاضلة بين تحقيق الكفاءة (الجانب الاقتصادي) أو تلبية احتياجات المواطنين الخاصة وكسب رضاهم (الجانب السياسي). وفي مجتمع انتقالي كالمجتمع السعودي تختلط فيه القيم التقليدية مع القيم البيروقراطية التنظيمية ما أفرز ثقافة هجينة تجعل من الصعب على الكثير من المواطنين استيعاب فكرة أن الأنظمة العامة وضعت من أجلهم ولتحقيق مصالحهم الفردية فضلا عن المصلحة العامة وهي الأهم. فإدراك المقصد من إصدار الأنظمة الحكومية يستلزم بالضرورة أن ينظر المواطنون للقضايا بموضوعية والحكم عليها بحيادية وليس بالهوى والميل الشخصي وربطها بالمصلحة الخاصة. لا بد من القناعة أن الأنظمة إنما وضعت لتحقيق المصلحة العامة بإيجاد بيئة منتجة وعادلة تؤدي إلى تحقيق المنفعة الجماعية وتلبي المنفعة الفردية بطريقة غير مباشرة. وإذا كانت الكفاءة التي تعني توفير السلع والخدمات التي يطلبها المستهلكون ممكنة في القطاع الخاص، إلا أنه من الصعب تحقيقها في القطاع العام والسبب أن القطاع الخاص يستهدف فئة صغيرة من المجتمع متجانسة الذوق وتربطه بهم علاقة تبادلية اقتصادية صرفة، بينما القطاع الحكومي مسؤول عن تلبية جميع احتياجات المواطنين الأساسية الذين تتفاوت أذواقهم ومتطلباتهم. ولذا تجد الحكومات نفسها مضطرة لصنع قرار جماعي توافقي وليس بالضرورة اختيار الأفضل ليتم بعد ذلك تطبيقه على الجميع دون النظر للتفاوت في تفضيلاتهم، وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى عدم رضا فئة من المجتمع عن الخدمة المقدمة كما ونوعا. وهذا مكمن صعوبة فهم البعض للأنظمة العامة فتراهم لا يقبلون الاشتراطات البلدية أو الإجراءات النظامية لاستخراج الوثائق الحكومية أو معايير القبول في الجامعة وغيرها كثير، بل إنهم يرون أن تطبيق الأنظمة ظلم جائر وسلب لحقوقهم، ولذا هم يبحثون عن شفاعة لتجاوزها ولا يرغبون في أخذ الشيء بحقه وإجرائه النظامي. وهم بذلك يتناسون أن السلطة العامة مسؤولة عن رعاية المصالح العامة بوضع المعايير التي تضمن كفاءة الإنتاج والحفاظ على الصحة العامة وتحقيق الاستدامة في الموارد الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية وتحقيق كل نفع متعد أو منع ضرر. هل يتصور أحدهم سلامة الطيران أو الأغذية أو الأدوية أو الخدمات الطبية والتعليمية لولا المعايير الصارمة التي تفرضها السلطات الحكومية المعنية للحفاظ على أرواحهم وأموالهم؟ وقس على ذلك جميع الأنشطة. ولا شك أن تطبيق الأنظمة يقتضي الإلزام والإجبار؛ لأن النفس البشرية بطبيعتها الفطرية لا تدرك المنفعة المشتركة خاصة إن تعارضت مع المنفعة الخاصة. وهو ما يجعل عند البعض اعتقادا خاطئا أن الأنظمة العامة تعوق مصلحته الخاصة. ربما كان ذلك صحيحا عندما تحتاج الأنظمة إلى التطوير للتكيف مع المستجدات، ولكن في الغالب الأنظمة تحقق العدل والمساواة والمصلحة العامة. هناك مبدأ في المالية العامة يقول إن المتساوين يفترض أن يعاملوا بالتساوي، وقد يكون عكسه صحيحا أيضا أي المختلفون يفترض أن يعاملوا بطريقة مختلفة أي أن النظام لا يمكن أن يحوي جميع الحالات ولا بد من الاستثناء ولكن شرط تطبيق الاستثناء أن يكونوا مختلفين؛ فالنظام كما ذكرنا إنما وضع لخدمة الناس ورعاية مصالحهم بالتساوي. والناظر في وسائل التواصل الاجتماعي يجد لغطا كثيرا وحديثا سلبيا، بل نقدا غير موضوعي لبعض القرارات التي تتخذها الأجهزة الحكومية فقط؛ لأنها لا تتوافق مع هواهم الشخصي، أو أنهم يستعجلونها ولا يدركون أن القرارات في بعض الأحيان تأخذ وقتا لجمع المعلومات وتصنيفها. يظن البعض أن على صاحب القرار تلبية مطالبهم دون قيد أو شرط ودون اتباع الإجراءات النظامية. هذه الشخصنة في العلاقة هي من تداعيات الثقافة التي اختلطت فيها القيم التقليدية والبيروقراطية حتى وصل الحال إلى فهم وتطبيق الأنظمة تجريديا أي دون مقصد ومعنى محدد. وأصبح الكثيرون يرون أن الأنظمة بيد صاحب القرار إن شاء أمضاها وإن شاء عطلها. ولربما ساعد على تعزيز هذا الفهم الخاطئ توظيف بعض المسؤولين السلطة بطريقة خاطئة، إضافة إلى أن الكثير من المواطنين يسعون إلى الحصول على الخدمة بطرق غير نظامية بتخطي الإجراءات الإدارية. إن هذه الممارسات الخاطئة بالاعتماد على العلاقات الشخصية في أداء العمل الحكومي أو الحصول على الخدمة من قبل العموم بمخالفة الإجراءات تعوق العمل المؤسسي الذي هو أساس مهم في التنمية الوطنية. إن خطوات الإصلاح الإداري تبدأ بإعادة النظر في هيكل الإدارة الحكومية وأسلوب اتخاذ القرار ووسائل تقييم الأداء والمحاسبة. لقد أضحى من الضروري عدم الخلط بين القرار التنفيذي ومعيار تقييمه الكفاءة والقرار السياسي ومعيار تقييمه التكيف مع توجهات الرأي العام.. هكذا حتى لا تختلط الإدارة بالسياسة وتتشتت الإدارة الحكومية التنفيذية بين البحث عن القبول السياسي والسعي في تحقيق الكفاءة الاقتصادية.
إنشرها