Author

الأستاذ الجامعي وتفعيل عطائه المعرفي

|
تشير السيرة الذاتية لكل أكاديمي عادة إلى أنه كان طالبا مجتهدا ومتفوقا استطاع، في إطار الفرص التي أتيحت له، الوصول إلى درجة الدكتوراه، أعلى درجة علمية تمنحها الجامعات. فعلى أساس هذه الدرجة يبدأ الأكاديمي عمله في الجامعة التي يعين فيها على المرتبة المعروفة "بأستاذ مساعد". ويكون هذا التعيين، في بعض الجامعات حول العالم، مؤقتا، ثم يثبت بعد فترة، تبعا للمنجزات التي يقدمها صاحب العلاقة. ويسعى كل أكاديمي إلى الارتقاء في المواقع الأكاديمية كي يصل إلى مرتبة "أستاذ". فهذه المرتبة هي المرتبة التي يستقر فيها وضعه الأكاديمي، وتأتي نتيجة تميزه في العطاء المعرفي. وتضع الجامعات عادة معايير لهذا التميز، وتقوم بتطبيق هذه المعايير على منسوبيها. ويفترض بعد ذلك أن يستمر العطاء المعرفي للأستاذ الجامعي على المستوى المتميز الذي وصل إليه، وذلك من موقع أكاديمي، ليس ذاتيا فقط، بل قياديا أيضا، يفعل دور الأكاديميين الآخرين من حوله، ويسهم في الارتقاء بإمكانات ومنجزات أولئك الأحدث بينهم؛ وبالطبع إذا مكنته من ذلك ظروف البيئة الأكاديمية المحيطة. تتبع مهمات العطاء المعرفي للأكاديمي، في الجامعة التي يعمل فيها، المهمات الرئيسة التي تسعى الجامعة ذاتها إلى القيام بها. فالأكاديمي هو العنصر المعرفي الفاعل الذي تعتمد عليه الجامعة في تحقيق رسالتها. وعلى أساس ما ذكرناه في المقالين السابقين، سنفترض في هذا المقال أننا أمام جامعة ترى نفسها مؤسسة فكر شاملة تقدم عطاء معرفيا متميزا يتضمن ثلاث مهمات رئيسة. فمثل هذه الجامعة تقدم الأنشطة الأكاديمية كافة التي يمكن للجامعات الأخرى أن تقدم بعضا منها أو جميعها. مهمة العطاء المعرفي الأولى للجامعة الشاملة هي "التعليم" وتأهيل الخريجين ليس فقط بالمعرفة اللازمة، بل أيضا بالسلوك المعرفي والممارسة المعرفية التي يحتاجها سوق عمل متطور وحريص على التمكن من التنافس مع الآخرين. أما مهمة العطاء المعرفي الثانية للجامعة، فهي "البحث العلمي" والإبداع والابتكار والعمل على حل المشاكل المعرفية سواء على المدى القريب من خلال البحوث التطبيقية، أو على المدى البعيد عبر البحوث الأساسية، وكذلك سواء في إطار المجتمع المحلي أو على مستوى العالم بأسره. تأتي بعد ذلك مهمة العطاء المعرفي الثالثة التي تهتم "بالتفاعل المعرفي الخارجي" والشراكة المعرفية المباشرة للجامعة مع المجتمع. وتشمل هذه المهمة: الأعمال الاستشارية؛ وأنشطة نقل المعرفة المتجددة؛ ونقل التقنية الواعدة؛ وريادة الأعمال؛ والإسهام في وضع معايير الممارسة المهنية الصحيحة، والعمل المعرفي المشترك مع المؤسسات المختلفة في شتى المجالات؛ إضافة إلى أي أعمال معرفية خارجية مفيدة يمكن للجامعة أن يكون لها دور متميز فيها. يفترض بالأكاديمي أن يسهم في المهمات المعرفية الثلاث سابقة الذكر. لكنه يصادف مشاكل في ذلك، خصوصا في تطلعه للتقدم الأكاديمي والوصول إلى مرتبة أستاذ؛ ويأتي ذلك نتيجة بعض حقائق العمل الأكاديمي المتعارف عليها ليس فقط في جامعاتنا، بل على مستوى غالبية جامعات العالم. مهمة "التعليم" في الجامعات محددة وظيفيا بعبء تدريسي يرتبط بتقديم المقررات الجامعية للطلاب، وينطلق من معايير تضعها الجامعة في إطار كل فصل دراسي، ويلتزم بها عضو هيئة التدريس. ولكن لا يحظى التميز في التدريس بأهمية كبيرة في معايير الترقية الأكاديمية. أما مهمة "البحث العلمي" فمحددة كعبء وظيفي في إطار الإشراف على طلاب البحوث، لكنها غير محددة بأي إنتاجية فصلية أو سنوية. وتأتي أهميتها لعضو هيئة التدريس من خلال كونها "المعيار الرئيس" للترقية الأكاديمية. ولأنها غير محددة بإنتاجية مجدولة زمنيا، نجد اختلافا في إقبال الأكاديميين على أدائها. فبعض الأكاديميين يصلون إلى مرتبة أستاذ في مدة تقل عن عشر سنوات بعد التعيين على مرتبة أستاذ مساعد؛ وبعضهم لا يصلون إليها إلا بعد أكثر من عشرين عاما. ونأتي إلى مهمة "التفاعل المعرفي الخارجي"، وهذه غير محددة بعبء وظيفي أو إنتاجية على عضو هيئة التدريس، ومتروكة لنشاطه الشخصي، باستثناء أولئك المكلفين بمناصب تشمل مسؤوليات ترتبط بهذه المهمة. وعلى الرغم من أهمية هذه المهمة في تفعيل المعرفة في المجتمع، إلا أن دورها في الترقية الأكاديمية محدود للغاية. هناك في الوقت الحاضر توجهات وأنظمة في بعض جامعات العالم تسعى إلى وضع أكثر من مسار واحد لمتطلبات الترقية الأكاديمية؛ بحيث يركز كل مسار في معاييره على إعطاء وزن خاص لمهمة معرفية محددة: مسار يركز على البحث العلمي كما هو الوضع حاليا؛ ومسار يركز على العملية التعليمية؛ ثم مسار يركز على التفاعل المعرفي الخارجي. وغاية هذه التوجهات ليس إرضاء أعضاء هيئة التدريس بفتح فرص جديدة للترقية أمامهم، بل الغاية هي تفعيل إمكانات توجهات كل منهم، وتعزيز دورهم المعرفي المشترك في المهمات الثلاث. ففي ذلك ارتقاء بدور الجامعة المعرفي ومكانتها في المجتمع، وقدرتها على الإسهام في التنمية المعرفية المستدامة بجوانبها المختلفة. نريد من الأستاذ الجامعي أن يكون متميزا في عطائه المعرفي المفيد. التميز في التدريس والوسائل والأساليب الجديدة لتطوير كفاءة وفاعلية العملية التعليمية في التخصصات المختلفة تميز مطلوب من أجل تقديم أفضل الخريجين للمجتمع. التميز في البحث العلمي وتقديم المعرفة الجديدة والمتجددة في شتى المجالات تميز مطلوب؛ لأن هذه المعرفة هي محرك التقدم خاصة في هذا العصر. التميز في "التفاعل المعرفي الخارجي" وتقديم الاستشارات ونقل المعرفة والتقنية والسعي إلى توظيفها والاستفادة منها والإسهام في ريادة الأعمال في المجالات المختلفة تميز مطلوب أيضا لتفعيل المعرفة الحية والاستفادة منها. نريد للأكاديمي أن يسهم في جميع المهمات المعرفية الجامعية الثلاث، ونريد له في ذات الوقت أن يكون حرا في اختيار المهمة التي يرغب أن يكون متميزا فيها، ونريد أن نحفزه بالترقية في التميز الذي يحققه في أي من المهمات الثلاث. فنحن نحتاج إلى تفعيل المهمات المعرفية كافة في الجامعات لما فيها من فائدة للمجتمع. هناك جامعات قطعت شوطا في هذا الاتجاه، وهناك جامعات تقوم بإعداد معايير ومسارات جديدة للترقية. وهناك جامعات خصصت نفسها في مهمة واحدة، "كجامعة كويست" التعليمية التي تحدثنا عنها في مقال سابق. المهم أمامنا هو السعي إلى التطوير المستمر بما فيه صالح مجتمعنا، وتطوير العطاء المعرفي ضرورة من ضرورات العصر.
إنشرها