«العهد» وأسطورة «الكلام المباح»

ما بين ذلك الزخم الدرامي الرمضاني المصري والسوري لهذا العام، تبرز مسلسلات تعد الأبهى في حلّتها الأنيقة المتجددة الأفكار كالمسلسل المصري "العهد - الكلام المباح"، وهو المسلسل الثالث على التوالي لفريق عمله المكون من المخرج خالد مرعي والمؤلف محمد أمين راضي والموسيقار هشام نزيه من بعد مسلسلي "نيران صديقة" و"السبع وصايا"، وقد نجم عن ذلك الاتفاق الثلاثي إخراج مميز بأفكار متجددة وموسيقى مؤثرة. يستمر مسلسل العهد على نسق السبع وصايا بالاستناد إلى الخرافة والنمط الغرائبي مبتعدا عن المنحى التقليدي، حيث الزمان والمكان مطموس الملامح.

تتمحور فكرة المسلسل حول الصراع على "العهد" وهو بمثابة دستور مقدّس من يحصل عليه يمتلك القوة، ويتعاقب الصراع على السلطة ما بين عوائل متنافسة أهمها عائلة "الذيابة" في كل من كفر القلعة وكفر نطاط الحيط وكفر النساء، لتنقسم في تلك الأقاليم داخلياً لصراع قاس يقود إلى قتل الأقارب. تنفرد رمزية العهد بتقديسه وانصياع العامّة له دون إدراك لسلطة النافذين ممن يعكفون على إعادة كتابته لإثبات جدارتهم به. صراع نيتشوي في الحياة يتمكن فيه الأقوى فقط من الانتصار في عالم أشبه بغابة، فيما يتمازج ذلك مع خرافات تحيا وتتيقظ فيصدقها المحيط، ونبوءات تنجح الشخوص بالاستفادة منها لتصديق الآخرين بها.

يغلب الطابع السوداوي والألوان القاتمة والليل الحالك كدلالة على الأسرار الدفينة وطغيان النفوس البشرية ذات النوايا السيئة. وعلى امتداد طابع مسلسل "السبع وصايا" تزخر الأحداث بإيمان ساذج بالخرافات والكرامات والتشبث بالقوى الخارقة، كظهور شخصية "استمنّوها" التي برعت بأداء دورها سلوى الخطاب، التي تتمكن من رؤية المستقبل من خلال نوايا التمر، لتهيم روحها بعد مماتها في الطرقات وتظهر بغتة أمام الآخرين في محاولة لتوجيههم إلى طريق الصواب، وإن كانت هي ذاتها شخصية خطّاءة تنكشف أسرارها فيما بعد ذلك يظهر التدرجات النفسية داخل كل شخص في المسلسل، فحتى الشخصيات الأكثر بطشاً تحمل حيثيات وتفاصيل داخلية، فيما تعلو على السطح رغبات دفينة قاتمة لشخصيات يغلب عليها طابع الخير. ذلك الصراع على البقاء أقرب لرواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ من حيث التنافس على السيطرة المفضي إلى القتل وتعنّت الفتوّات، وبروز فلسفة الخير والشر في النفوس كطابع للعمل الروائي، بغض النظر عن اختلاف السياق والرمزية الدينية لرواية محفوظ الأكثر عمقاً وتأثيراً.

هوس فريق العمل بالأرقام والطلاسم والرسائل الخفية في أعماله الأخيرة يتجلى أكثر من خلال موسيقى التتر التمهيدية، حيث تتناغم برشاقة مع العمل الدرامي الغرائبي من ألحان قبطية كنائسية وترنيمات بلغة يستغلق فهمها ويندمج مع ثيمة المسلسل المطموس لملامح المكان والزمان. اختار نزيه بالتحديد اللحن القبطي "أونيشتي أميستيرون"، بمعنى السر العظيم وأعاد تلحينه بأسلوب مختلف. يأتي التجدد في فكرة الموسيقى على نسق تتر مسلسل العام السابق "السبع وصايا" وممازجته لموسيقى الروك والشعر الصوفي. برع المخرج مرعي في اختيار ملابس وديكورات تغرق في أجواء تاريخية غابرة تعزز من الجو الأسطوري بفكرته التي تظهر تأثراً بالمسلسل الأمريكي الشهير "صراع العروش"، وإن كان محملاً بتقاليد ولمسات تراثية محلية.
#2#
يحمل العمل الدرامي لمسة ميكافيلية حيث يبرر أي عمل وإن كان مخالفاً للقوانين والأخلاق بهدف الحفاظ على الدولة، تلك الدولة الأقرب إلى كفر القلعة حيث يبطش حكامها بالآخرين في إقليمهم وإقليم الآخرين. ويتعالى صوت كفر نطاط الحيط من خلال حرّاسه الصارمين الملقبين بالحشّاشين، وكأن اختباءهم في تلك الحجرة والتعاطي يفضي إلى مرحلة تجل إلهي ورغبة في الذود عن قائدتهم سوسن، التي قامت بتأدية دورها الممثلة السورية كندة علّوش بصرامتها ورغبتها في تقلد الحكم، وإن كان في ذلك إعلانها بأنها فتاة من نسل عائلة الذيابة قادرة على "إصلاح المائل"، وتمكنها من السيطرة على الحشاشين البعيدين عن السياق الفعلي وتفاصيل فرقة الحشاشين التاريخية، مع مقاربة ما يعرف عنهم من طبع الاغتيالات والانصياع التام لقادتها. وكأن في ذلك إيحاء على السلطة الدينية القادرة على التحكم بزمام ومفاتيح الحكم فعلياً.

وعلى الرغم من كثرة عدد الممثلين إلا أن العنصر النسائي يطغى على العمل الدرامي، فالممثلون على الرغم من تميزهم غير معروفين إذا ما قورنوا بأسماء لامعة كسوسن بدر في ظهور ثانوي، وأخريات بأدوار بطولية كهنا شيحة وصبا مبارك وغادة عادل التي نجحت في الخروج من أدوارها التقليدية. فيما يسرق كفر النساء ألق النساء الأخريات بانفراده بنساء قويات ترأسهن رؤية التي قامت بتأدية دورها الأردنية صبا مبارك، التي ظفرت بانقلاب على حكم الرجال لتهمشهم وتنبذهم، وتنفرد وحدها بالزواج فيما يمنع دخول أي رجل للكفر. وكأن كفر النساء يعكس طبقة المهمشين الثائرين فجأة على أوضاعهم على الرغم من "ضعفهن ورقة أجسادهن." ويتعاقب على حراسة كل كفر كل من الحشاشين والغفر والحراس، وإن كان الأقوى هو القادر على حكم الآخرين.

بلمسة سرمدية تتناغم في مسلسل العهد مشاهد خيالية مؤثرة، كظهور أشباح يعظون ويفشون أسرارا، وتسلل أفاعٍ مرعبة تقتل أناساً ويتحكم بها شخوص بقدرات خارقة. وتنبع أحاسيس جيّاشة ما بين مهيب الأصلي، الذي برع بتأدية دوره آسر ياسين وشخصية مهيب الزائفة التي تقوم بدورها غادة عادل. ليتلاقى شخص غير قادر على لمس الآخرين مع شابة تعد لمستها علاجا للآخرين. مع قناعات غريبة بالخرافات كالاقتناع بظهور جنية تتسلل بالليل، وانصياع لأوامر القادة وإن كانت غير معقولة كتكميم أفواه الشعب بأوشحة حمراء منعاً للحديث باستثناء الموافقة على كل ما يقال، وكأن ذلك هو الكلام المباح الأوحد. مسلسل العهد يظهر نفوساً تمازج ما بين الطمع بالسلطة والجشع الدنيوي، فيما تتصارع الرغبات الدفينة والأسرار الخفية عبر مشاهد رصينة، بأسلوب تشويقي يدفع المشاهد للرغبة في متابعة ما يتعاقب من أحداث.