ليست جديدة تلك الثغرة الكبيرة (بل الهائلة) في هيكلية الاقتصادات العربية بشكل عام، من جهة الاهتمام بالمشاريع الصغيرة والمتوسطة ومنشآتها. هذه الثغرة موجودة، ولم يتم ردم ما يكفي منها لكي يتم البناء عليها. كما أنه ليس جديدا أن ينادي عديد من الجهات العربية حتى الدولية، بضرورة الاهتمام العربي بهذا الجانب الاقتصادي المحوري، بل إن بعض المؤسسات الدولية قدمت في العقود القليلة الماضية سلسلة من الدراسات والبحوث، للوصول إلى أفضل مستوى للمنشآت الصغيرة والمتوسطة في الاقتصادات العربية المختلفة.. ولا سيما في ظل تنامي دور مثل هذه المنشآت في الحراك التنموي في كل البلدان التي اهتمت بها، بما فيها بالطبع الدول المتقدمة وتلك الناشئة التي تحقق نجاحات متواصلة.
رفع اتحاد المصارف العربية مجددا صوته في هذا المجال، وقدم سلسلة من الأرقام ليست سلبية فحسب، بل صادمة. فالمصارف العربية لم تمول المنشآت الصغيرة والمتوسطة إلا بنسبة لا تزيد على 8 في المائة، من إجمالي ائتمان يقدر بأكثر من 1.7 تريليون دولار، وهذا يعني أن هذا القطاع الاقتصادي المهم جدا لا يحصل إلا على 13.6 مليار دولار كتمويل من المصارف المشار إليها، ورغم قناعة اتحاد المصارف العربية بأهمية هذه المنشآت، ورغم تحركه في هذا الاتجاه لرفع مستوى التمويل، إلا أن النسبة المستفيدة من هذا التمويل لا تزال بسيطة جدا. وعلى هذا الأساس، كان لا بد من إعادة النظر في الآليات التي تسهم في وضع المنشآت الصغيرة والمتوسطة في مكانها الطبيعي المحوري.
في البلدان المتقدمة، يصل حجم تمويل المصارف للمنشآت والمشاريع الصغيرة والمتوسطة إلى 90 في المائة من إجمالي التمويل الكلي؛ أي أن النسبة مقبولة تقريبا فيما لو قورنت بمثيلتها العربية. وفي بلد كاليابان، تعتمد مؤسسات صناعية كبرى بأسماء معروفة حتى في قرى العالم المجهولة، على المنشآت الصغيرة والمتوسطة في عملية استكمال الإنتاج. وهي بذلك لا توفر على نفسها تكاليف مالية عالية فحسب، بل تسهم أيضا في تمكين الاقتصاد الكلي الشامل في البلاد. تضاف إلى ذلك الآثار الإيجابية الهائلة للتعامل المباشر مع المنشآت الصغيرة والمتوسطة على الحياة الاجتماعية في كل البلاد. والأمر متشابه إلى حد كبير في كل البلدان التي حققت أشواطا هائلة في مجال التصنيع والإنتاج والتصدير.
وليس أهم بالفعل من تشغيل المنشآت الصغيرة والمتوسطة العربية وتوفير التمويل اللازم لها، سواء على صعيد الإنتاج، أو من الجهة الأهم، وهي تلك المتعلقة بتشغيل الشباب، وخفض معدلات البطالة في أوساطهم، وهي معدلات (كما يعرف الجميع) ليست مرتفعة فحسب، بل خطيرة جدا. يستعد اتحاد المصارف العربية لتنظيم قمة مصرفية تحت عنوان مهم للغاية "الشمول المالي في أجل التنمية الاجتماعية والاستقرار". والشمول المالي هنا، يختص أكثر شيء بأن تكون هناك تمويلات واقعية لكل المشاريع المنتجة التي تدخل ضمن نطاق الاقتصاد الوطني الشامل. لكن لا بد من الاعتراف بأن القمة وغيرها من النشاطات المهمة المشابهة لن تحقق شيئا، ما لم يتم العمل على تكريس أهمية (بل أحقية) المشاريع الصغيرة والمتوسطة في التمويل والمساهمة في التنمية الاقتصادية.
الأمر ليس صعبا. يكفي النظر إلى البلدان التي حققت تقدما اقتصاديا كبيرا في العقود القليلة الماضية، بما فيها تلك القريبة من المحيط العربي كتركيا مثلا. هذه الأخيرة تخصص 75 في المائة من إجمالي اقتصادها لدعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة. وقد حققت بالفعل قفزات كبيرة ومهمة على صعيد الإنتاج والتصدير والعوائد في السنوات الماضية. مسألة تمويل المنشآت المشار إليها، تسبقها أيضا قناعة لدى المؤسسات العربية الكبرى، بأن "الصغيرة والمتوسطة" مؤسسات مكملة وليست منافسة لها.
