الفصل والاستئناف في منازعات الأوراق المالية

لي أمل كبير، بعد الله سبحانه وتعالى، أن يتجاوب محمد بن عبد الله الجدعان، رئيس هيئة السوق المالية، وهو رجل القانون المطلع والممارس لهذه المهنة، وأحد أعضاء قائمة المحكمين السعوديين، ولديه خبرة في مجال تقديم الاستشارات القانونية الخاصة بتنظيم الشركات والقانون التجاري وحقوق المساهمين، ومختلف المسائل التنظيمية والتأسيس والهيكلة والاستشارات الخاصة بأسواق المال وتدريب المحامين السعوديين الشباب، وغير ذلك. أتمنى أن يتجاوب مع ما طالبت به عدة مرات هنا من ضرورة ممارسة الشفافية وإيضاح طبيعة أعمال كل من لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية ولجنة الاستئناف في منازعات الأوراق المالية، لأنه وعلى الرغم مما لدي من خبرة تتجاوز 25 عاما في مجال عمل الأسواق المالية وطبيعة عملها، فأنا أقف حائرا أمام عمل هاتين اللجنتين، وعن كيفية تفسيرهما لنظام السوق المالية.
أعتقد أنه من الواجب على الهيئة إيضاح ما يعتبر مخالفا للائحة سلوكيات السوق بشكل دقيق لكي تتضح الصورة أمام جميع المتداولين ويعرف الجميع المسموح والممنوع من هذه التصرفات.
الحقيقة أنه لا يكفي أن تقوم الهيئة بين الحين والآخر بإصدار قرارات بحق مخالفين تقدمت الهيئة بشكوى ضدهم لمخالفتهم سلوكيات السوق، ومن ثم إصدار قرار ضدهم من لجنة الفصل ومن ثم تأييد ذلك من قبل لجنة الاستئناف، دون إطلاع كل المتداولين على نوع المخالفة والأسس التي تم اتباعها لتجريم التصرفات التي تمت الإدانة بناء عليها. عند مقارنة قرارات هيئة الأسواق الأمريكية بقرارات هيئتنا الموقرة، نجد أن الهيئة الأمريكية تستهدف غالبا شركات كبرى ومصارف ووسطاء لأنها تعلم أن هؤلاء هم من لديه الوسائل والآليات الممكن استغلالها لإحداث تلاعبات في الأسواق، ولا تلتفت كثيرا لصغار المتداولين، لأن الأسواق المالية تم بناؤها من الأساس، حيث لا تكون هشة إلى درجة أن فردا صغيرا يستطيع التلاعب بها. وهذا مع الأسف ما نراه في معظم قرارات هيئة السوق، مثل سيدة تنشر توصيات على موقع تواصل اجتماعي، أو فرد قام بعمليات مضاربة في محفظة متواضعة، وهكذا، بينما لا نسمع عن وسيط تلاعب بأوامر البيع والشراء لعملائه، ولا آخر استبق أمر بيع أو شراء، ولا إلى موظف تنفيذي تداول بناء على معلومات داخلية، ولا إلى نظام وسيط إلكتروني تمت برمجته بطريقة خبيثة، وهكذا.
تكتفي الهيئة في بيان إدانتها بالقول إن الشخص مخالف للمادة الـ 49 من نظام السوق المالية والمادتين الثانية والثالثة من لائحة سلوكيات السوق، على الرغم من أن هذه المواد غامضة وغير تفصيلية وعرضة للتفسيرات الشخصية أكثر من كونها موضوعية وواضحة وعادلة. نجد على سبيل المثال أن المادة 49 من النظام تنص على أن الأعمال المخالفة هي "قيام شخص بالعمل عمدا أو المشاركة في إجراء يوجد انطباعا غير صحيح أو مضلل بشأن السوق أو الأسعار أو قيمة الأوراق المالية بقصد التضليل، أو لحث الآخرين على الشراء أو البيع". كيف يمكن قياس الإجراء على أنه "يوجد انطباع" غير صحيح؟ ما هو "الانطباع" بالضبط؟ وما هو المقياس الذي من خلاله نعرف أن الإجراء مضلل؟ ثم كيف يمكن إدانة شخص لم يقم بالعمل "عمدا"، بل قام "بالمشاركة" في الإجراء؟ وكيف يكون هناك مشاركة إذا لم تكن عمدا؟ هل معنى ذلك أنه بالإمكان توجيه تهمة لشخص لكونه شارك في إجراء مخالف دون علمه "كما تنص عليه المادة"؟ للاطلاع على المزيد من غموض اللائحة، يمكن العودة إلى مقال "إعادة النظر في لائحة سلوكيات السوق".
كذلك شد انتباهي في إعلانات الإدانة أن مبالغ الغرامات تتجاوز ما هو مذكور في النظام، حيث إن الغرامة، حسبما أقرأها في النظام لا تتجاوز 100 ألف ريال، إلا أن الغرامات المعلنة تتجاوز المليون ريال أحيانا. قد يكون لدى الهيئة ما يبرر ذلك ـــ لا أعلم ــــ غير أن هذه الغرامة لا تشمل المبالغ التي يُلزم الشخص المخالف بدفعها لحساب الهيئة "نظير المكاسب غير المشروعة المحققة على محفظته الاستثمارية". أي أن هناك غرامة كبيرة تفرض على المخالف، وهناك مبالغ أخرى عبارة عن مكاسب حققها الشخص نتيجة تلاعبه. وهنا حقيقة يتبادر سؤال مهم عن آلية تحديد هذه المكاسب وهل تقوم الهيئة بخصم الخسائر التي تلقاها الشخص جراء "تلاعبه" بالسوق؟ بمعنى أنه من السهل حساب مبلغ الربح الذي تحقق للشخص عندما باع الورقة المالية، ولكن بكل تأكيد نعرف أن أي متعامل في السوق يتلقى خسائر بين الحين والآخر، فهل الهيئة تحسب الربح فقط ولا تنظر إلى الخسارة؟ إن كانت كذلك، فلا أعتقد أن في ذلك عدالة للشخص "المخالف"، كون الافتراض هنا أنه يربح في كل الحالات وهذا أمر مستحيل، وإذا كانت الخسائر التي يتلقاها الشخص من العمليات التي يقوم بها تخصم من ذلك، فهل من الممكن أن يوجد شخص متلاعب بحسب تعريف الهيئة غير أنه لم يربح في نهاية الأمر، وبذلك لا تفرض عليه غرامة؟
المشكلة الأخرى أن النظام يقول نصا إن العقوبة تشمل "تعويض الأشخاص الذين لحقت بهم أضرار نتيجة للمخالفة المرتكبة، أو إلزام المخالف بدفع المكاسب التي حققها نتيجة هذه المخالفات إلى حساب الهيئة". وعلى الرغم من وضوح النص إلا أننا لم نسمع أبدا أن الهيئة قامت بتعويض من لحقت بهم أضرار! فهل دقة حسابات الهيئة تتوقف عندما يأتي الأمر إلى تعويض المتضررين، بينما تتم الحسابات بسهولة تامة عندما تقرر الهيئة دفع المكاسب لحسابها، أم أن هناك خللا في هذه المادة؟
أعتقد أنه من حق المتعاملين في السوق معرفة جميع التصرفات المحظورة التي تعتبرها الهيئة مخالفة للنظام، وأزعم أن عدم الإفصاح عن ذلك يدل على أنه لا توجد هناك أسس حقيقية ومنطقية وملموسة يمكن الحديث عنها ونشرها بكل شفافية ووضوح. إن كان هذا هو الحال فنحن أمام كارثة قانونية ليس لها مثيل، يمكننا تشبيه ذلك بطرقات لا يوجد فيها نظام للمرور، تُرك تقدير المخالفة لرجل المرور ولجنة غير مختصة داخل جهاز المرور تقرر حسبما تراه، ومن ثم ترفع بما تتوصل إليه إلى لجنة استئناف غير متخصصة للمباركة على قراراتها. هذه النقطة الأخيرة أعتقد أنها مهمة جدا، كون لجنة الاستئناف مكونة من ثلاثة أشخاص فقط، من هيئة الخبراء ووزارة المالية ووزارة التجارة، ولا نجد فيها أشخاص لهم خبرة حقيقية وعملية ونظرية عن طبيعة عمل الأسواق وطبيعة التداول وسلوك المتداولين، فكيف يمكنهم البت في قضايا فنية دقيقة ترفع لهم من قبل الهيئة ولجنة الفصل؟
أنا أعلم تماما أن وجهة النظر الشعبية أن علينا القضاء على التلاعب بالسوق والضرب بيد من حديد على المخالفين، وهذا أمر لا غبار عليه وجميعنا نتفق عليه، ولكن أعتقد أننا ولله الحمد في المملكة نتمتع بأجهزة قانونية متينة ويهمنا جميعا إعلاء كلمة الحق ونشد العدالة والنزاهة في أعمالنا، ومن غير المناسب أن تُصدر قرارات مصيرية بحق أفراد تكون مبنية على أمور ظنية دون وجود لوائح واضحة وصريحة وشفافة، ولا أن نسمح لأي لجنة مهما علا تشكيلها من مزاولة أعمال تخصصية دون وجود الكفاءة اللازمة لديها ولا الخبرة اللازمة للبت في مثل هذه الأمور.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي