أرشفة محتويات نظامنا التعليمي واستبدالها بأخرى عصرية

الرائد هو من يتقدم على غيره في مجال معين، ويكتشف طريقا يسلكه مَنْ بعده. في المجال العلمي تجد أن الرائد هو الشخص الذي يسهم في دفع أو توسيع أو تطوير علم معين. والريادة تشمل الإبداع والابتكار. فالرائد المبدع هو من تتوافر لديه الأفكار الإبداعية، التي يسبق غيره بها في مجال أو تخصص معين. والرائد المبتكر هو من يبتكر طريقة تطبيقية جديدة، تسهم في عملية تطبيق فكرة معينة. بذلك نجد أن الإبداع غالبا مرتبط بالأفكار، والابتكار غالبا مرتبط بالتطبيق. وقد يجتمعان معا في شخص يسمى مخترعا. وبالتالي فإن مفهوم الريادة هو الطريق إلى القيادة.
وبالحديث عن ريادة الأعمال في السعودية، يستوقفنا مفهوم الإبداع والابتكار أعلاه. ولذلك فإنه غالبا ما نسمع عن رواد أعمال في السعودية قاموا بتطوير أو ابتكار شيء معين يتعلق بالتطبيق وضعف الجانب الإبداعي المتعلق بالأفكار. وهنا يبدأ التساؤل حول ذلك: لماذا؟ هل هنالك خلل تعليمي يعجز عن تقديم الأفكار الجديدة في التخصصات العلمية للإسهام في تقديم أفكار جديدة إبداعية لدفع عجلة التطور العلمي؟ أم أن التعليم لا يقدم التواتر المعرفي للتخصصات، ويكتفي فقط بإعادة العلم المستقر وتكراره؟ أم أن هناك خللا ثقافيا يؤثر في الأفراد ويمنعهم من التفكير خارج الصندوق؟
بناء على بعض النجاحات الإبداعية للطلاب المبتعثين، فهذا يعطي مؤشرات على أن الخلل في نظام التعليم السعودي، بحيث إنه يعجز عن تقديم المعرفة المتواترة التي تساعد الفرد السعودي على أن يكون مبدعا، وبالتالي فإن هذا يقودنا إلى أن النظام التعليمي يحتاج إلى أرشفة محتوياته الحالية، واستبدالها بمحتويات حديثة وعصرية؛ حتى يتم تأمين تسلسل الأفكار الحديثة والمنافسة الإبداعية في المجال العلمي العالمي.
وكأي منظمة فإن تطوير التعليم يعتمد على كفاءات العنصر البشري مع توافر الموارد المحفزة للإبداع. فالعنصر البشري هو مَنْ يحدث التميز لأي منظمة ورفع سقفها الإبداعي والابتكاري. ولأي منا أن يكتشف أن التواتر المعرفي، الذي يتطلب التخصصية في مجال معين، لابد من أن يكون حديثا ليسهم في خلق أفكار ومحاور جديدة.
إن الجامعات الحكومية وبعض الجامعات الخاصة السعودية تشترط امتداد التخصص في الكليات النظرية كالإدارة مثلا كأساس أكاديمي لقبول أعضاء هيئة تدريسها، من أجل المحافظة على التواتر المعرفي. هذا التوجه جميل ورائع في حال أننا في قمة التواتر المعرفي العالمي. بحسب آخر تصنيف للجامعات العالمية نجد أن قائمة العشر الأوائل تخلو من أي جامعة سعودية. فالريادة التعليمية العالمية تعتبر صعبة حاليا، وتحتاج إلى جهد جبار لتحديث المعرفة المقدمة في أي مؤسسة تعليمية، ومن ثم المحافظة على الريادة باشتراط التخصصية في المجالات الجامعية النظرية.
ولكن ماذا عن التعدد المعرفي؟ التعدد المعرفي هو الذي تستمد أفكاره من أكثر من مجال علمي؛ حيث يحكي لنا التاريخ أن التعددية أنتجت مبدعين ومتميزين قدموا علما غيروا به التركيبة المعرفية العالمية. من هؤلاء ماكس فيبر، فريدريكسون تيلور، بيتر دركر، إضافة إلى مايكل بورتر. جميع هؤلاء قدموا تطويرا إبداعيا لعلم الإدارة نتيجة التعددية المعرفية. فمنهم من هو مهندس أو محام أو عالم اجتماعي أو اقتصادي سياسي.
إذن فالتركيز على العلوم غير المستقلة والجديدة، وتعزيز الإبداع المعرفي لها غالبا ما يسهم في تكوين تخصص جديد ذي متطلبات مزدوجة، الذي يرفض فكرة التخصصية ويعزز فكرة التعددية. فأصبح هنالك تخصصات تعتبر جديدة على العلوم المستقرة مثل إدارة المشاريع والإدارة الهندسية والموارد البشرية وما إلى ذلك. كما أن توجه الاقتصاد العالمي أصبح تعدديا أكثر من أنه تخصصي، وذلك لارتباط الاقتصادات العالمية بعضها مع بعض. فأصبح متطلبا، بل أصبحت التعددية ميزة لمن لديهم درجات علمية في أكثر من مجال واحد. ويعزى هذا التميز إلى اختلاف المناظير في التعددية وأحاديتها في التخصصية.
ومع ذلك، فإن إصرار الجامعات السعودية على امتداد التخصص يبطئ محفزات التميز الإبداعي مقارنة بالتطور السريع للاقتصادات العالمية، ويؤثر سلبا في التطوير الإبداعي وإنشاء برامج جديدة مزدوجة. وليس هنا فقط، بل إنها ستؤثر في تقنين التطوير على الخبرات التي حتما ستؤدي إلى ابتكارات تطبيقية، التي عادة ما تتطلب مديرين تنفيذيين. فتلجم الإبداع الفكري الناتج من تقديم علوم أو حقول جديدة معتمدة على التعددية كالموارد البشرية والإدارة الهندسية. مثل هذه التخصصات تتطلب مديرين استراتيجيين يملكون تعددية المعرفة، ما سيؤهل المملكة لأن تكون رائدة في المستقبل. ومع الأسف جميع هذا يقنن بحجة التخصصية وامتداد التخصص.. بينما لو أنه تم عمل تكامل ما بين التخصصية والتعددية لانتعشت المعرفة ولأصبحت السعودية رائدة للعلم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي