Author

التفريق بين النمو والتوسع

|
مستشار اقتصادي
تعيش المملكة فترة مريحة ماليا وتوسعا اقتصاديا كبيرا ونموا اقتصاديا. هذه الحالة بعد أن استمرت لنحو جيلين أوجدت بيئة جديدة. لهذه البيئة أعراض كثيرة وتداعيات عميقة ولكن أهم أعراضها ومسبباتها أيضا في نظري، هو عدم التفريق بين التوسع الاقتصادي والنمو العضوي في الاقتصاد. الأول هدفه زيادة السعة لتلبية متطلبات خدمية في الغالب، والثاني هدفه التطوير الذاتي. طبعا هناك تقاطع بين التوسع والنمو في أكثر من دائرة وخاصة في الحاجة إلى الاستثمارات. وسيلة التوسع الأساسية الإنفاق العام والاستثمارات، وخاصة في البنية التحتية، بينما وسيلة النمو الأساسية هي الإنتاجية والاستثمار الرأسمالي ماديا وبشريا. ولكن عدم التفريق بينهما إلى القدر الكافي خطأ استراتيجي يجب ألا نقع فيه, ما يجعل الخلط بينهما متوقعا وحتى محمودا لفترة، حيث إن المملكة دولة نامية وهناك حاجة ماسة للتوسع، ولكن التحدي الكبير لصناع السياسة الاقتصادية معرفة متى ينتهي دور الأول ويبدأ دور الثاني، وما أدوات هذا أو ذاك؟ التوسع الاقتصادي ضروري ولا يمكن للنمو أن يبدأ بفاعلية وقوة في المراحل الأولى دون جهد حكومي ممنهج ومتواصل لفترة، لحين وضع الأساسيات لبيئة اقتصادية قادرة على النمو. إذ لا بد من تغيير قوانين اللعبة. فلا بد من بنية تحتية مقبولة ومن طاقة بشرية على قدر معين من الإعداد في التعليم، وجهاز مركزي يستطيع الإدارة والتعامل مع المتطلبات الجديدة. الاعتماد على النمو فقط لتحقيق قفزات طويلة جدا صعب وحتى غير واقعي، في ظل ما توافر من مقدرات مالية. الإشكالية المنهجية أن التوسع يبدأ شرعية جديدة pathdependency ــ قوة العادة والتعود على ما هو موجود وإرساء مصالح مشروعة وغير مشروعة للدفاع عن النهج. التوسع الاقتصادي مرحلي أحيانا وأحيانا أخرى ضروري للتحفيز في أثناء فترات الركود وقاعدة انطلاق، ولكن الأساس هو النمو الاقتصادي العضوي الذي ينبت من قدراتنا واستغلال موقعنا ومواردنا ويبني على إنتاجيتنا، عمادة الأساس المبادرة والإنتاجية والبحث العلمي التطبيقي أولا ثم النظري لما نصل مستوى معينا. النمو مصدر للاستدامة، فالنمو يحمل بين طياته القدرة والمرونة اللازمة للتكيف من خلال رجال الأعمال المبادرين، بينما التوسع في أحسن الأحوال يشجع سياسة (من سبق لبق) واستغلال الدعم على حساب الإبداع، بينما النمو امتداد للحالة الطبيعية في تشجيع واستغلال المواهب وأهمية الجهد والاجتهاد والعلاقة الوثيقة بين العائد والمخاطرة. آلية التوسع المعتادة عقود حكومية يرافقها أحيانا تجاوزات وتأخير وتسعير غير اقتصادي، بينما آلية النمو شركات تبحث عن الربحية من خلال القيمة المضافة وتصاعد الإنتاجية. معرفة وتقدير القيادات الاقتصادية للتفريق بين التوسع والنمو عامل حاسم في نجاح التنمية من عدمه. النمو يساعد على فرز الكفاءات، بينما التوسع يساعد على طمس الكفاءات. للتوسع دعاية إعلامية وللنمو أبطال مغمورون. نحن نمارس خلطا بين الاثنين بما يحمل من مخاطر دون تدقيق. أعراض الخلط كثيرة ومنها النظرة للتوطين الذي يصبح حقيقة عائقا في سبيل التوسع ــ تصبح المصلحة الوطنية في تناقض بين الحجة للتوسع التي في كثير منها ضرورية، وبين التوطين الذي هو هدف ووسيلة ليس للنمو وحده وإنما لما هو أهم. من الأعراض تجميد دور البحث العلمي. لما يستحوذ التوسع على المنظار الاقتصادي يصبح البحث العلمي في الغالب ترفا والشهادة العليا مقصدا ومحاولة للتقليد ولو بنوايا طيبة ولكنه غير أصيل، بينما في حالة النمو يكون البحث العلمي أحد عوامل الإنتاجية، وتكون الرابطة بين الجامعة والوسط الاقتصادي أقوى. ما الحل؟ الغالب لدينا في العقود القليلة الماضية هو حالة التوسع على حساب حالة النمو. أولى خطوات الحل هي الوعي بالمرحلة ومعرفة أين نحن في سلم مراحل التنمية، وأين نحن من حقائق النمو الاقتصادي وبالذات قياس الإنتاجية. هذا التوصيف المرحلي مدخل أولي، يعقبه أخذ هذه الحيثيات كنقطة انطلاق لكل قرار اقتصادي لمعرفة أهدافه وأين مصبه الأخير. تحويل الاقتصاد من حالة التوسع إلى حالة النمو لن يتم بسرعة، ولا ضرر من تزامن الاثنين إذا استطعنا تحقيق توطين حقيقي وليس شكليا كما يحدث الآن. الاختبار الحقيقي هو مدى تصاعد إنتاجية المواطن.
إنشرها