الخطاب الملكي وتعزيز أخلاقيات الوظيفة العامة

يمكن النظر إلى خطاب الملك سلمان كبرنامج لعمل حكومي يرسم ملامح المستقبل، ويهيئ لنقلة نوعية في التنمية الوطنية. من بين أهم ما تضمنه الخطاب الملكي هو مكافحة الفساد الإداري والمالي واقتلاعه من جذوره. إذ إن ذلك سيكون شرط الانطلاق نحو آفاق أوسع في التنمية الوطنية وتحقيق رؤية الملك سلمان. وتأتي أخلاقيات الوظيفة العامة كركيزة أساسية في الإصلاح الإداري وتنمية الشعور بالمسؤولية لدى الموظف الحكومي وإحداث ثقافة تنظيمية في الأجهزة الحكومية تعتمد على مبدأ أن الخدمة تبحث عن المواطن وليس العكس.
تشكل أخلاقيات الوظيفة العامة إطارا عاما لممارسة السلطة العامة، فهي التي تحدد مستوى التعامل مع المواطنين وكيفية استخدام الموارد المالية وطرق تنفيذ الإجراءات وأسلوب اتخاذ القرارات، وجميع ذلك بهدف تحقيق المصلحة العامة بحيادية وكفاءة. فالموظف المعين من قبل الحكومة لتنفيذ سياسات الدولة يتمتع بهامش من الحرية في تنفيذها، ما يجعله أمام خيارات متعددة في كيفية إنفاذ السياسات العامة وتطبيق الإجراءات لتحقيق أعلى درجات المصلحة العامة. هذا أمر حتمي وضروري إذ إن الأنظمة لا يمكنها أن تستوعب جميع الحالات، خاصة في ظل المتغيرات المتسارعة والمعقدة والحاجة إلى الاستجابة الفاعلة والفورية لمتطلبات المواطنين واحتواء التغيرات التقنية والتحديات الاقتصادية والمشكلات الاجتماعية. إلا أن هامش الحرية في التنفيذ قد يستغل من قبل الموظف الحكومي لتحقيق مكاسب شخصية أو حتى التسلط والتعامل بفوقية وتفويت المصلحة العامة. ومصدر خطورة إساءة استخدام السلطة أنه يتم في معظم الأحيان تغليفها بإجراءات ورقية شكلية لتبدو في ظاهرها ملتزمة بالنظام، ولكنها في واقع الأمر مخالفة له ولمقاصده. ويرتبط مقدار إساءة استخدام السلطة بمقدار الصلاحيات الممنوحة للموظف بعلاقة طردية، فكلما علا المركز الوظيفي كان هامش الحرية للتصرف من قبل الموظف العام أكبر، وبالتالي تكون دائرة الضرر من إساءة استخدام السلطة أكبر وأوسع تأثيرا. فعلى سبيل المثال تمثل القيادات الإدارية القدوة لبقية الموظفين في الجهاز الحكومي، ولذا يكون من الأولى أن تلتزم بتطبيق النظام، فإن هي سلكت سلوكا سيئا يخالف الأنظمة فذلك مدعاة لأن يقتدي بها بعض الموظفين ممن هم في المستويات التنظيمية الأدنى، فيتجرؤون على النظام بتطويعه لمصالحهم الشخصية أو تعطيله بمنح الخدمة من لا يستحقها أو منعها عمن يستحقها.
هكذا تستشري ثقافة عدم احترام القانون ليس فقط داخل الجهاز الحكومي وإنما على مستوى المجتمع، حتى يصبح معظم الناس لا يرغبون في تطبيق القانون، بل يرونه عائقا أمام تحقيق مصالحهم الشخصية. وإذا ما تم اختزال القانون العام في تحقيق المصالح الفردية دون المصلحة الجماعية فإن ذلك يعني عدم الوعي بأهمية المصلحة العامة والافتقار إلى الرؤية المشتركة التي هي شرط لتطبيق القانون العام والالتزام به. فتنفيذ القانون العام يتطلب إدراك المقاصد العليا من جميع أفراد المجتمع بنظرة جماعية، أي أن يعي الجميع أنه من مصلحة المجتمع السعي نحو تطبيق القانون. هذه النظرة المشتركة تنبع من الإيمان بأن الجميع يعيشون في المركب ذاته وأن مصيرهم واحد ولا لطرف غنى عن الآخر، بل إن التعايش الجماعي يستلزم بالضرورة التعاون والتكامل وهذا لا يتحقق إلا باحترام القانون وتطبيقه. القانون هو المعادلة التي تحقق العدالة المنصفة والحرية المنضبطة والتعايش السلمي والأمن والأمان والازدهار الاقتصادي. إلا أن تطبيق القانون والالتزام به أمر ليس سهلا لأنه يحد من الحرية الشخصية ويتعامل بحيادية وموضوعية، حيث لا يأخذ في الاعتبار المكانة الاقتصادية والوجاهة الاجتماعية. ويكون ذلك أكثر وضوحا في المجتمعات التقليدية مثل المجتمع السعودي الذي ما زالت تسيطر عليه القيم والعادات المجتمعية وتحكم تصرفات أفراده. وطغيان العلاقات الشخصية على القانون يجعل تطبيقه مشوها وانحيازيا، بل إن الاستثناء يصبح هو القاعدة. إن ضعف احترام القانون والتهاون في تطبيقه يوجد نوعا من التراخي واللامبالاة والاتكالية التي تفضي إلى تدني مستوى الأخلاقيات العامة وتفشي ظاهرة الفساد، ما يؤثر سلبا في الهوية الوطنية ولحمة المجتمع. وربما لا تلحظ هذه التداعيات السلبية لضعف تطبيق القانون في حالة الرخاء الاقتصادي والوفرة المالية، إلا أنها بلا شك ستكون أكثر ضررا ومدعاة للفوضى الجماعية في الأوقات العصيبة التي تستلزم انضباطا ذاتيا من الأفراد والتعاون فيما بينهم. الكل يشاهد على سبيل المثال ما يحدث عندما تتعطل إشارة المرور من فوضى عارمة فكيف سيكون السلوك في حالات الطوارئ والمخاطر؟
إن ضعف تطبيق النظام ناتج إما أن النظام تقادم ولم يعد صالحا للتطبيق وإما الجهل به أو لغياب الرقابة والمتابعة، ومهما يكن الأمر فإنه يؤثر سلبا في الجانب الأخلاقي في ممارسة السلطة، ويمثل مصدرا للفساد الإداري والمالي وعائقا لجهود التنمية الوطنية. إذن السؤال المهم كيف يمكن الانعتاق من هذا الضعف الأخلاقي والانتقال إلى مستويات أعلى من التحضر؟ الجواب ببساطة هو الالتزام بتطبيق النظام بعدل وحيادية وموضوعية وشفافية. وهذا يستلزم بالضرورة الفصل بين السلطات وتعزيز المشاركة الشعبية لتكون هناك رقابة مجتمعية، بدلا من تفرد البيروقراطيات العامة بعملية صنع القرار وتمتعها بالحصانة من المساءلة والمحاسبة. هذا الالتزام بالقانون والترتيبات الإجرائية لصناعة القرار العام بالمشاركة والفصل بين السلطات يؤدي إلى رفع مستوى أخلاقيات الوظيفة العامة، حيث يتم تطبيق النظام من أجل المصلحة العامة بقياس التأثير النهائي ومدى رضا الجمهور وليس فقط تقييم الأداء بمدى الالتزام بالإجراءات الورقية.
الحقيقة أن القانون ثابت ولا يقوى على الحراك إلا بتطبيقه، ومن أجل أن يحقق مقاصده يجب أن يكون تطبيقه في إطار من الأخلاق والقيم العالية. فأخلاق الوظيفة العامة هي التي تبعث الروح بالقانون من خلال ممارسة السلطة بأسلوب عادل وشفاف يحقق المصلحة العامة، وليس المصالح الفردية. ويتبين هنا أن المعيار الحاكم في ممارسة السلطة العامة هو تقديم المصلحة العامة على المصالح الشخصية. ذلك أن السلطة العامة إنما وجدت لتحقيق المنفعة الجماعية، وإلا فالسوق هو مكان تبادل المنافع الخاصة. لذا فإن موضوع أخلاقيات الوظيفة العامة يستدعي النظر إليه كأحد مرتكزات مكافحة الفساد الإداري والمالي الظاهر منه والخفي. والمطلوب هو إعادة تثقيف المجتمع بدور الحكومة ومفهوم السلطة العامة ومقاصد القانون عبر إعادة هيكلة نظام الإدارة العامة، بحيث تخضع الأجهزة الحكومية لرقابة المجالس النيابية وليس فقط الرقابة البيروقراطية، إضافة إلى توسيع المشاركة الشعبية في صنع القرار ليتحمل المواطن المسؤولية ويستشعر أنه جزء مهم في جهود التنمية. أما أن تختلط القيم البيروقراطية مع القيم التقليدية فذلك يصنع لنا نموذجا هجينا ممسوخا للإدارة الحكومية، ولذا يتعين على المسؤولين الحكوميين اعتبار الخطاب الملكي وثيقة ينبغي أن تترجم إلى مبادرات وبرامج تعزز تطبيق القانون والارتقاء بأخلاقيات الوظيفة العامة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي