"أخشى أن أموت قبلك وأتركك وحيداً". هكذا استشهد الأديب والمفكر والناقد والكاتب الصحافي عابد خزندار، بمقولة مقتبسة من مسرحية "بانتظار جودو" للكاتب صموئيل بيكيت في صفحته في الفيس بوك، ليموت محتفظاً بروح معرفية شبابية متألقة حتى آخر لحظة، ويترك من حوله قرّاء وأدباء نعوه برثاء غامر، ليتبعثر خبر وفاته الكئيب عبر وكالات الأنباء والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي.
مات في العاشر من فبراير عن عمر يناهز الثمانين، ولم يتوقف حتى الرمق الأخير عن الكتابة المنهمرة التي تثري الآخرين في مجال الثقافة والتنوير المعرفي. امتاز بقراءاته المتنوعة ومتابعته النهمة للصحف والكتابات، بل وخاض تجربة التفاعل والتواصل الاجتماعي وبالأخص تويتر وفيس بوك. تتناثر عباراته المقتضبة عبر مواقع التواصل لتنبض بعمق فكري آسر كقوله: "المرء يتطلع إلى أشياء كبيرة، مع أنه قد يجد السعادة في أشياء صغيرة".
"الموضوعية هي أن تعلن عن ذاتيتك منذ البداية. ليبرالي، سلفي..إلخ وحينئذ نعتبرك موضوعياً ونتحاور معك". كتب خزندار تلك العبارة في صفحته الخاصة عبر الفيس بوك، لينافس محترفي وسائل التقنية من فئة الشباب. وهو من مواليد عام 1935 في حي القشاشية في مكة المكرمة، انفرد بتنوع اختصاصه، حيث درس في مدرسة تحضير البعثات في مكة في المرحلة الثانوية، وفي كلية الزراعة في القاهرة عام 1957م، كما درس الماجستير في الولايات المتحدة عام 1960 في مجال الكيمياء الحيوية.
ولا يستدل المرء من كتاباته على ابتعاد مجال دراسته عن الأدب والنقد، فقد تبحر بها لينافس المتخصصين في مجالها، امتاز بتمرده على سقف الحرية ما تسبب في توقيفه عن الكتابة ومن ثم قراره السفر إلى فرنسا في منتصف الستينيات، حيث اكتسب معرفة ثقافية ثريّة من خلال تعلم الإنجليزية والفرنسية ما أثرى قراءاته، إضافة إلى تجربته الحياتية في باريس حيث عكف على نهل الثقافة الفرنسية، وتدرج من مرحلة القراءة والتمحيص حتى التنفيس والكتابة. باتت باريس مقر ثقافته وموته هو وزوجه شمس الحسيني (وافتها المنية عام 2012)، المثقفة والمحررة السعودية، التي رثاها في مقال مؤثر بشدة لوعته، فقد بات يناجيها وينتظر لقاءه بها: "لن يطول الأمد حتى ألتقي بك إن شاء الله في رحابه".
استمر في الكتابة حتى الرمق الأخير ليغوص في الأمور الإنسانية ويلامس هموم الشعب، في انتقاد البيروقراطية والتعطيل والتبحر في سبل التطوير بنمط مغاير للمألوف، في عدد من الصحف كعكاظ والمدينة وآخرها الرياض، حيث احتلّ زاوية "نثار"، التي امتازت بميلها إلى علم الاجتماعيات، حيث نشرت صحيفة الرياض آخر مقال له بعد يوم من وفاته، تقديراً لجهوده، بعنوان "أزمة الغاز.. غزارة إنتاج وسوء توزيع". في إشارة إلى أزمة الغاز في جدة، ومقالات أخرى عديدة تنم عن الغرق في هموم الآخرين "كالتفاته نحو جدة"، والتطرق إلى أهمية التعليم وبالأخص المطور منه كالتعليم الإلكتروني، وتوفير السكن والتأمين الطبي للمواطنين، والاهتمام باستقلالية المرأة كاقتراحه عمل السعوديات عن بعد. كما أعطى اهتماماً خاصاً بتقنية المعرفة حيث ذكر في إحدى مقالاته أن "التقنية هي سبيلنا إلى ولوج عصرها وتحديداً تقنية المعرفة".
"العمل الإبداعي يبرر نفسه ويصف نفسه ويستقل بذاته دون أن يحتاج إلى مبرر خارجي". ذكر الأديب عابد خزندار تلك العبارة التي تنطبق على تذكر الآخرين لإنجازاته، إذ يعد من المؤثرين في نهج الحداثة، يمتاز بأسلوب سلس ورصانة تنم عن عمق تفكيره. من أشهر مؤلفاته النقدية: "الإبداع حديث الحداثة" و"معنى المعنى" و"رواية ما بعد الحداثة" إضافة إلى "قراءة في كتاب الحب"، الذي يظهر ميله إلى فلسفة أقرب للطوباوية برومانسية طاغية، ونقتبس هنا من كتابه عن الحب: "اللغة تتحول إلى أدب، شعراً ونثراً بمجرد أن تشرع في الحديث عن الحب، وهذا الكلام بالطبع ينسحب على كل الفنون رسماً، تشكيلاً، عمارة، موسيقى ورقصاً. وهذا لا يعني انفصال اللغة عن الواقع أو حتى انتقالها من مستوى إلى آخر. لأن الحب في بداية المطاف هو الواقع والواقع في نهاية المطاف هو الحب، والاثنان لا يتحققان إلا من خلال اللغة".
في مقال لخزندار في صحيفة الرياض بتاريخ 25 أبريل 2014، بعنوان "الحنين إلى الرومانطيقية" يذكر تجارب التيار الرومانطيقي، وتجربته الخاصة. "ولأنني عشت في صباي تحت غمامة الرومانطيقية، فقد تأثرت بها، وكانت لي شطحات رومانطيقية، ولكنني صحوت منها تحت وطأة الواقع المرير آملاً أن أجد طريقاً للخلاص، ولكن لم أجد إلا الخواء واليباب، والآن وأنا في المستشفى بعد أن أنهكني العمر وأخنى عليّ أحن إلى الرومانطيقية، وأردد مع ابن النحاس: يا ندامى أين أيام الصبا *** هل لها رجع وهل للعمر فسح؟
نشرت عن دراساته النقدية عدّة مطبوعات من ضمنها كتاب أحمد العطوي النقدي: "أنماط القراءة النقدية في المملكة، عابد خزندار نموذجاً"، كما ألف في عام 2014 رواية تحت اسم "الربع الخالي"، التي تظهر تأثره بثقافة مصر التي درس فيها واعتداده بها كمنبر تنويري. ولم يتجرأ الكاتب خزندار على نشر الرواية التي كتبها منذ عام 2008، وينم ذلك على جلد الذات وسن معايير كتابية عالية دفعته للتخوف من نشر عمل روائي قبل التأكد، ليظهر عبر الصفحات الهم الوجودي، عبر فضاءات سجين محتبس، وتطفو الخيبات في معترك الحياة. يصف عابد "الربع الخالي" في صفحته الخاصة في الفيس بوك، بأنه يتسم باختراق السرد التقليدي وخاصة الغربي الذي قلّده الروائيون العرب. ويذكر أنه أطلق عليه اسم: "حكايات" حيث عاد فيه إلى التراث العربي، وبالذات "ألف ليلة وليلة" حيث تتولد الحكاية من حكاية. ويكمل خزندار: "وكتابي يبدأ من حكاية هي "حكايتي" ثم تتولد من هذه الحكاية ثانية بعنوان:"حكايته" وهذه تتولد منها حكاية ثالثة بعنوان: "حكاية الآخر" وهكذا إلى آخر الكتاب.
امتد طموح الأديب خزندار في نشر المعرفة ليس فقط عبر الكتابة وإنما عبر نشر الثقافة والمعرفة عبر تأسيس مكتبة الخزندار التي أسهمت في توفير الصحف الأجنبية والكتب غير المتوافرة. جماهيريته ظهرت من خلال تلك التغريدات والهمسات الحزينة التي رثاه بها أدباء وكتاب وأهل وأصدقاء، وإن كان من الأجدى الاحتفاء به بشكل أعمق وثري قبل موافاته المنية. رحمه الله، فهو صرح ثقافي يقتدى به، وأنموذج للمثقف المتفاني في الكتابة والنزف من أجل الآخرين.
*روائية وكاتبة سعودية

