دمج الوزارتين.. هل يعني استقلال الجامعات؟
يأتي دمج وزارتي التعليم العالي والتربية والتعليم في وزارة واحدة كخطوة تنظيمية جريئة وحاسمة ليس في الشكل الهيكلي وحسب، وإنما في التوجه والنظرة المستقبلية لدور الجامعات ومنهجية إدارتها وتوثيق العلاقة بين التعليم العالي والتعليم العام. لقد مضى على التعليم العالي في السعودية ما يقارب ثمانية عقود أو يزيد، كانت المهمة الرئيسة توفير المعرفة وتوسيع المدارك وتقديم العلم من أجل العلم وإعادة تثقيف المجتمع ونقله من حالة الجهل والتخلف الفكري إلى حال التحضر والتنوير، سواء في العلم الشرعي أو التقني. ولا شك أن تلك المرحلة سجلت نجاحات وإنجازات يمكن الاستدلال عليها بعدد الجامعات والكليات والمعاهد والخريجين والأبحاث والدراسات التي قفزت بمعدلات كبيرة أسهمت إلى حد كبير في تطور المجتمع ثقافيا، إلا أن هذا التطور لم يكن في كثير من الأحيان ذا مردود عالٍ على التنمية الاقتصادية، وإنما كان مختزلا في رفع مستوى ثقافة الأفراد، وتكاد تكون محصورة في مجالات نظرية لا تمت للواقع بصلة، بل إن نوعية التعليم أسهمت في إضفاء صبغة التعالي على ممارسة المهن والصناعة وأصبحت المعرفة ترفا ومكانة اجتماعية أكثر منها وسيلة للبحث عن حلول إبداعية وابتكارات لتطوير المنتجات الاقتصادية ومعالجة المشكلات الاجتماعية وزيادة القدرة التنافسية. هكذا ينظر للتعليم بنخبوية فكرية لا تمت للواقع بشيء. وتم تكريس هذا النهج من خلال تبني التنظيم البيروقراطي في مؤسسات التعليم العالي بسلطة هرمية ونهج مركزي وإجراءات إدارية معقدة كان ضحيتها العملية التعليمية والبحوث العلمية وخدمة المجتمع. وإلا كيف نفسر وجود أعداد كبيرة من الجامعات والكليات في الوقت الذي ما زلنا نعاني فيه تدني مستوى الصناعة الوطنية وضعف قطاع التصدير وشح البحوث التطويرية.
وهنا يستوجب الاعتراف بأن هناك خللا في منظومة التعليم العالي، ولكن كيف السبيل لمعرفته طالما لا يوجد ربط بين مخرجات الجامعات والتطور الصناعي والإنتاجية الاقتصادية. هناك دعوات نحو التحول إلى مجتمع المعرفة، ويقصد بذلك المعرفة من أجل التطوير والتحول إلى دولة صناعية تعتمد على بناء الخبرة والتراكم المعرفي، ولكن هيهات أن يتحقق ذلك في ظل التنظيمات الإدارية الحالية للجامعات التي ترهلت بيروقراطيا وابتعدت عن الواقع وأصابها الجمود وانكفأت على نفسها. فأقصى ما تفعله الجامعات في الوقت الحاضر هو احتضان الفئة العمرية من الشباب من 18 إلى 24 وتدجينهم وتعليمهم في معظم الأحيان كبيروقراطيين يسمعون وينفذون دون تدريبهم على التفكير النقدي والقدرة على التعبير وفهم وتحليل ما يدور حولهم والبحث عن حلول جديدة إبداعية. وعندما نختزل العلم بحفنة من المعلومات نحشو بها عقولهم ثم نزج بهم إلى مكان العمل ونعتقد أن باستطاعتهم التعامل مع المتغيرات البيئية الكبيرة والمتسارعة فهذه مصيبة، وعندما يتلبسنا شعور بإنجاز المهمة على أكمل وجه بينما يعاني الطلاب والطالبات انفصاما تاما بين ما يتعلمونه والواقع الذي يعيشونه فهذه مصيبة ثانية، وعندما تكون البحوث لبناء النظرية وزيادة الجسم المعرفي فحسب دون ربطها بالواقع والمساهمة في التطوير ومعالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية فهذه مصيبة ثالثة، عندما تكون قرارات الجامعات مبنية على مجالس أعضائها من داخلها لتكون القرارات روتينية إما للموافقة على تمديد أو ابتعاث أو قائمة الخريجين وما شاكلها دون مناقشة التحولات المستقبلية والموضوعات الجدلية فهذه مصيبة عاشرة.
لا أحد ينكر أن هناك نوايا صادقة وجهودا مخلصة ومخصصات مالية كبيرة للجامعات السعودية ولكنها تدور في فلك الروتين البيروقراطي لتراوح مكانها ولا تؤدي إلى تأثيرات محسوسة في تطوير الاقتصاد وصناعة الفرق في المجتمع. نحن نواجه تحديات كبيرة جدا وستتفاقم المشكلات إذا لم نعر تلك التحديات الاهتمام الكامل والحقيقي. وللجامعات الدور الأكبر والأبرز في مواجهة تلك التحديات. ومن أجل ذلك لا بد أن يكون هناك تطوير مؤسسي للجامعات ينسجم مع حجم وطبيعة تلك التحديات، حيث تكون أكثر استجابة لمتطلبات المجتمع في الحاضر والمستقبل. إن بناء اقتصاد قوي ومجتمع متماسك يتطلب نهجا تعليميا يرتكز على التفكير الإبداعي والربط بين المعرفة وتطبيقاتها في الحياة العملية ويسهم في التنمية الاقتصادية والصناعية. ولتحقيق ذلك لا بد من تحول مؤسسي جذري في إدارة الجامعات وجعلها في موقع المسؤولية ومراقبة وتقييم أدائها على أسس غير روتينية، وإنما وفق معايير دقيقة تقيس التأثير النهائي ومدى إسهامها في التطور الصناعي من خلال رفع مستوى خريجيها وبرامجها وأبحاثها واستشاراتها. وفي هذا السياق هناك مقولة يرددها رجال الأعمال وهي "مواءمة خريجي الجامعات لسوق العمل" وحتى وإن كانت حجة للتهرب من توظيف المواطنين، تبقى كفكرة يمكن الاستفادة منها في فتح المجال لمشاركة رجال الأعمال في عملية صنع القرار داخل الجامعات وتعزيز الترابط بينها وأماكن العمل وهي الحلقة المفقودة في جهود تطوير التعليم العالي. وهذا يعني أمرين، الأول، التحول إلى المعرفة المهنية، حيث تتاح الفرصة لتطوير المعايير المهنية في مكان العمل. والأمر الآخر، ممارسة وتطبيق الخريجين للمعارف والمهارات في مكان العمل. وهذا يستلزم أن تدار الجامعات بأسلوب مهني واحترافي وأقرب للأسلوب التجاري، وهذا أمر غير ممكن في ظل سيادة النهج البيروقراطي. أي أن المطلوب تحول مؤسسي جذري، حيث تصبح الجامعات مؤسسات غير هادفة للربح، ويتم ضم عدد من المواطنين أصحاب العلاقة والتأثير والفاعلين والمهتمين في تنمية الموارد البشرية وتطوير المنتجات والخدمات إلى مجالس الجامعات التي تستلزم أن تتحول إلى مجالس أمناء. هكذا فقط يتم كسر قيد البيروقراطية الذي ظل مكبلا للجامعات ردحا من الزمن، وإطلاق الطاقات الحقيقية لمنسوبيها وإمكاناتها لتكون كما أريد لها عنصر تغيير إيجابي ومؤثر في المجتمع، بدلا من حال الخمول وتلذذ بعض المسؤولين بالمكوث في منطقة الراحة وأمان الروتين الوظيفي. يفترض أن تكون الجامعات مصدر إلهام وإبداع ومصنعا للأفكار والقياديين والتميز، وإذا لم تكن كذلك فيجب العمل عاجلا على إحداث تغيير مؤسسي يمكنها من أداء مهمتها ورسالتها على الوجه المطلوب بما يحقق تطلعات المواطنين وإنجاز الأهداف الاستراتيجية المتكررة في كل الخطط الوطنية الخمسية. ويتعزز الأمل بعد إلغاء وزارة التعليم العالي في إحداث تغيير مؤسسي يمنح الجامعات الاستقلال الإداري والمالي والمرونة التنظيمية للاستجابة لمتطلبات الحاضر والمستقبل.