فكر القطاع الخاص في الحكومة
بدأنا نلاحظ رجال الأعمال ورواد القطاع الخاص يدخلون إلى القطاع الحكومي من خلال المناصب القيادية. وإذا كان هذا من باب نقل الخبرات والتجارب، أو من باب البحث عن الكفاءات التي يشهد لها بالعطاء المتجدد ويشهد بأنها من محبي العمل Hard Workers فلا شك أن هذا سيمنح الكثير للقطاع الحكومي ويقدم نماذج إدارية قابلة للتكرار داخل القطاع الحكومي، لكن هذا صحيح فقط على المستوى الفردي وليس مستوى النظرية. بمعنى أن نجاح هذه التجربة مرتهن فقط بالشخصية القيادية التي سيتم اختيارها، وليس لذلك تفسير في نظرية الأعمال أو الإدارة العامة، وبمعنى آخر فإن نجاح تجربة فردية لا يضمن تعميمها بحيث إن أي وافد جديد من قطاع الأعمال سينجح حتما في الإدارة العامة. ذلك أن تعيين الشخصيات القيادية من القطاع الخاص في القطاع العام، لا يعني فشل نظرية الإدارة العامة أبدا ويجب على من يعمل في القطاع العام أن يعمل وفق فلسفة ونظرية الإدارة العامة وليس فلسفة ونظريات القطاع الخاص.
فالحديث عن نجاح فكر القطاع الخاص في إدارة الحكومة ليس له دليل عملي ملموس، لم يقدم أحد في العالم دليلا على مثل هذه التجربة - في حد علمي. القطاع الحكومي قطاع غير منتج للثروة بطبيعته، والضرائب تقوم على فكر مشاركة القطاع الخاص في أرباحه، فإنتاج ثروة الأمم وتعظيمها مرهون بأعمال القطاع الخاص فقط. والمملكة ليست استثناء في ذلك. فالحكومة في المملكة تحصل على إيراداتها من القطاع الخاص فقط. ومن يسأل عن البترول فعليه أن يعرف أن شركة أرامكو شركة قطاع خاص، نعم مملوكة للدولة، لكنها تعمل كقطاع خاص وتدفع للحكومة ضرائب وامتيازات عن إيرادات النفط، وهذا هو سبب البلبلة التي حصلت عندما أعلنت مصلحة الزكاة والدخل عن ضرائب النفط التي بلغت أكثر من 700 مليار قبل أكثر من سنة. فالحكومة لا يمكن أن تحصل على إيراداتها إلا من خلال الضرائب، وأحيانا من خلال الاستثمارات لكن يجب ألا تذهب الحكومة بعيدا في هذا المجال. وأي تصرفات بخلاف ذلك فإنها تعد خطيرة جدا ليس على مستوى الحكومة فقط، بل الاقتصاد كله. يجب ألا تورط الحكومة أو أي من وزاراتها في بناء مؤسسات تعمل على إنتاج سلع وخدمات تمثل إنتاجا للثروة، إن هذا الإجراء يضع النظام كله في فوضى عارمة، وتفصيل ذلك يحتاج إلى مقال مستقل.
لهذا يجب أن نكون حذرين عندما تنتقل شخصيات من القطاع الخاص للعمل في القطاع الحكومي، يجب عليهم أن يضعوا جانبا نظريات وفكر القطاع الخاص المبني على المنافسة والتكلفة والإيرادات المحسوبة بالنقد ونماذج تعظيم الأرباح، يجب ترك كل ذلك والعمل وفقا لنظم نظرية الأموال المقيدة، ونعم لاحتساب التكلفة والعائد ولكن المحسوبة على أساس المنافع المقدمة والخدمات، ولا مجال هنا لمسألة تعظيم الأرباح، بل القضية هي الخدمات في ضوء المخصص في الأموال. فدائما ما يصطدم القادمون الجدد من القطاع الخاص إلى القطاع العام بالقيود المفروضة، وهي ما يسمونها بالبيروقراطية على أساس أنها شر محض، وهذا خطأ فادح. فالبيروقراطية جوهر العمل الحكومي وليست بشر بذاتها، بل الممارسات الخاطئة لها هي الشر. لذلك يعمل القادمون الجدد على تحطيم العمل البيروقراطي الذي لا مناص منه نظريا وفلسفيا. فلا يمكنك أن تضع فردا أو حتى مجموعة أفراد في الحكومة بيدهم جمع الضرائب وصرفها، هذا لا يحدث في القطاع العام أبدا، هناك مئات اللجان العاملة في الدولة تعمل على تخصيص الإيرادات لكل جهة. ولهذا يجب أن تكون مصروفات الجهات مقيدة بالمخصصات المالية. ويجب على الجهة الحكومية تقديم خدماتها بغض النظر عن حجم إيراداتها، ولا يمكن ربط العوائد التي يحصل عليها الموظف الحكومي بحجم المخصصات المالية المقررة للجهة.
ولأن عمل موظف القطاع العام غير مرتبط بالمخصصات المالية للجهة، فإن راتبه عادة محدود بكادر حكومي شبه ثابت، لهذا يسمى موظفو القطاع العام بأصحاب الدخل المحدود. لكنه دخل يحقق أعلى مستوى من الأمان لقلة المخاطر المرتبطة به، فالراتب سيصل حتى لو انخفضت أعمال الجهة الحكومية أو انخفضت متحصلاتها، أي أن الراتب عند مستوى مخاطر قريب جدا من الصفر، والمعروف أن العوائد تكون في أقل حد لها عند مستوى مخاطر يصل للصفر. بالمقابل فإن موظفي القطاع الخاص يتعرضون لمخاطر أعلى وعوائدهم مرتبطة بالعمل، لذلك ترتفع عوائدهم كلما ارتفع مستوى المخاطرة والإنتاج. وعلى كل شخص أن يحدد تفضيلاته لمستوى المخاطر ويقرر إما القطاع الخاص أو العام وبالتالي يرضى بمستوى العوائد. لكن أن يأتي أحدهم من القطاع الخاص ليعمل في القطاع العام ويريد العوائد نفسها فهذا غير مقبول اقتصاديا على الأقل وحتما ستوجد مثل هذه الظاهرة - إن هي حدثت - اختلالات اقتصادية على المدى البعيد.
تعمل بعض الوزارات على إيجاد شركات خاصة تابعة، على أساس أن هذه الشركات تعمل وفقا لفكر القطاع الخاص ويستطيع الوزير من خلالها تجاوز بيروقراطية العمل الحكومي والتصرف بحرية في الأموال التي تحققها هذه الشركات، ومن ثم إقناع موظفي القطاع الخاص للعمل في القطاع الحكومي على أساس أنهم أصحاب كفاءات أو من محبي العمل Hard Workers لكن هذا يعرض الاقتصاد لمخاطر جسيمة على المدى الطويل كما قلت سابقا، ولعل هذا يحتاج إلى تفصيل ليس هذا أوانه. لكن القاعدة الأساس أن من يعمل في القطاع العام يجب أن يعي تماما قيوده ويعي حجم التضحيات التي عليه تقديمها، وتحسين الخدمات في القطاع العام ليس له علاقة بمستويات الرواتب الممنوحة، ولا بفكر العوائد، بل بفكرة الخدمة العامة، والعقد الاجتماعي، ومن يقرأ سير أبي بكر وعمر والخلفاء الراشدين وكيف فلسفوا الخدمة العامة والعائد عليها يعرف ماذا قصدت من هذا المقال؟