إنها الفكرة العقارية وليست الأرض

كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحا. كنا لا نزال في الكلية نسابق الزمن لإنهاء عرضنا الفني والمالي الذي سنقدمه صباحا في المزايدة العلنية على شراء أرض تبلغ مساحتها 360 ألف متر مربع، تملكها ولاية أريزونا في الولايات المتحدة. وبينما كان زملائي في المجموعة منهمكين في العمل، وفي أثناء مراجعتهم النهائية لدراسة الجدوى صاح زميلي رايان ــ المسؤول عن العرض المالي ــ "200 ألف دولار! نستطيع تحمل 200 ألف دولار إضافية لشراء الأرض. القيمة الإجمالية التي نستطيع دفعها حسب دراسة الجدوى هي الآن 11 مليون دولار!". كان خبرا سعيدا. فلربما كانت تلك الزيادة كفيلة للفوز بالمزايدة على شراء الأرض.
قبل ذلك اليوم بنحو شهرين، وبعد أن تم تقسيم الطلاب إلى خمس مجموعات، حيث تعمل كل مجموعة على حدة للفوز بالمزايدة وتقديم الفكرة التطويرية الأفضل، ألقت فينيسا هيكمن ــ المفوضة بإدارة الأراضي الحكومية في الولاية ــ المحاضرة التعريفية عن الأرض الخام التي تنوي الولاية بيعها، وتدعونا كطلاب للماجستير في التطوير العقاري إلى تقديم عروضنا المالية في المزايدة العلنية، ثم يتبع ذلك مناقشة أمام أعضاء هيئة التدريس وجمع من المطورين العقاريين للأفكار والمشاريع المقترحة من قبل كل مجموعة.
كان السؤال الذي كنا نسعى للإجابة عنه خلال الشهرين هو: ما السعر العادل الذي تستحقه هذه الأرض؟ ما الفكرة أو المشروع المجدي ماليا الذي يتيح لنا تقديم أعلى سعر ممكن للأرض؟ لذلك كان الجهد مركزا على ابتكار أفكار ومشاريع ودراسة وتحليل السوق لإيجاد مشروع مربح ماليا، والمرحلة الثانية هي تحديد سعر الأرض الأقصى الذي نستطيع تحمله لشراء الأرض. وهنا نقطة شديدة الأهمية، فليست الأرض في الولايات المتحدة المحدد الرئيس لقيمة التطوير العقاري. فليست الأرض مستودع للثروة كما هو الحال لدينا في السعودية، بل الثروة العقارية الحقيقية هي بالتطوير الذي يقام عليها. لذلك لم يكن السؤال الذي طرحناه على أنفسنا: ما "سومة" الأرض الحالية؟ كان السؤال: ما الفكرة العقارية التي على أساسها يتم تقييم سعر الأرض؟
أحد الأسباب الرئيسة في "تحجيم" تأثير تكلفة الأرض في المشاريع في أمريكا هو المرونة في تعديل استخدام الأرض. فإذا كان الاستخدام الحالي للأرض تجاريا، فليس هذا سببا كافيا يجعل من صاحب الأرض (البائع) متمسكا بسعر معين للمتر لمجرد الأرض المجاورة، على سبيل المثال، تم بيعها بسعر مرتفع. فالأمر مرتبط بدرجة كبيرة بقدرة المطور على استقطاب مستأجرين للمشروع قبل شراء الأرض، إضافة إلى مدى قوة الطلب الموجودة في المنطقة المحيطة. لذلك يندر جدا أن يتم تطوير مشروع من قبل مطورين دون عرض المشروع على مستأجرين محتملين والحصول على (خطاب نوايا) بالاستئجار من المشروع. لذلك، فرغم أن استخدام الأرض تجاري على سبيل المثال، فقد يكون الاستخدام الأمثل للأرض وحدات سكنية، أو مرفق تعليمي أو محطة أو ربما حتى مواقف للسيارات! وفي ضوء ذلك، فلا تأخذ حقيقة أن استخدام الأرض استخداما تجاريا أكبر من حجمها. الأهم من ذلك ما هو الاستخدام الأفضل لهذه الأرض (تجاري، صناعي، سكني)؟ يصل المطور إلى الإجابة عن هذا التساؤل بعد دراسة مستفيضة للسوق وبناء عليه يحدد السقف السعري الذي لا يتجاوزه عند المفاوضة على شراء الأرض. وتغيير استخدام الأرض من تجاري إلى سكني مثلا عملية لا تخلو من التعقيد (وسأفرد لها مقالة خاصة)، لكنها ممكنة في أمريكا ومن إيجابياتها أنها حجمت من تكلفة الأرض، وفرغت الأرض من كونها مستودع للقيمة إلى مجرد وسيلة، وجعلت من التطوير والبناء على الأرض القيمة العظمى في سعر العقار.
تبدو الصورة مغايرة محليا، حيث يلعب نوع استخدام الأرض العامل الأكبر في تحديد النطاق السعري للمتر وتتضاءل أهمية الاعتبارات الأخرى إلى حد بعيد. لذلك، كان لافتا للانتباه (لي على الأقل أنا القادم من بيئة عقارية مختلفة) أن يكون هناك تفاوت كبير وواضح في المزايدة على شراء الأرض. فبينما توقفت بعض المجموعات عند سقف ثمانية ملايين دولار، كانت إحدى المجموعات مستعدة لدفع 16 مليون دولار مقابل الفوز بالمزايدة، مبررين ذلك بأن دراسة سوق الجدوى المالية والاستخدام الذي ينوون إقامته على أرض المشروع يتيح لهم الوصول إلى هذا السقف السعري المرتفع!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي