استمراء الفساد .. المرض الاجتماعي الخفي
الجريمة والاختلاس وسوء استخدام السلطة العامة مؤشرات لتدني مستوى القيم لدى الأفراد وعدم الالتزام بأخلاقيات الوظيفة العامة. هذه حقيقة تثبتها الدراسات والأبحاث في جميع المجتمعات، فضلا عن أنها أمر بدهي، فالذي يصنع الفرق بين المجتمعات هي نوعية ومستوى القيم والأخلاق ومدى الالتزام بها. وتتفاوت المجتمعات في نضجها الحضاري حسب نوع الرقابة القيمية على سلوك الأفراد. ففي أُولى درجات التحضر الاجتماعي يقوم الأفراد بما يجب عليهم القيام به في حال وجود رقيب عليهم، فإذا غاب توقفوا عن أداء العمل، أو قاموا بسلوكيات لا تتفق مع معايير الوظيفة العامة. وفي درجة أعلى يندفع الناس لعمل المطلوب طالما أن هناك مكافأة مجزية ودونها لا يعملون. وعندما يبادر الأفراد طواعية وبحس المسؤولية الاجتماعية نحو أداء العمل العام بجد واجتهاد وإخلاص فهذه درجة حضارية أعلى من سابقتها. ويصل المجتمع حال النضج الكامل عندما لا يتوقف هذا الشعور بالمسؤولية العامة والرقابة الذاتية عند السلوك الفردي، وإنما يتعداه إلى دعوة الآخرين للمساهمة في العمل الجماعي.
وهكذا نرى أن الثقافة المجتمعية بمكونها الأخلاقي والقيمي أساس في توجيه سلوكيات الأفراد وتحديد التصرفات المقبولة وغير المقبولة. ولذا يجب عدم اختزال مهمة محاربة الفساد وتعزيز قيم النزاهة في مهام هيئة مكافحة الفساد، فهذا تحجيم لمفهوم أخلاقيات المهنة العامة الذي هو أكثر تعقيداً وعمقاً من أن يحتويه تنظيم حكومي بجميع أنواع الرقابة الإدارية والمالية. ولذا يجب أن يُنظر للهيئة كمساند ومعزز في نشر ثقافة النزاهة، وإذا كان كذلك فإن المهمة التي تقع على الجميع "سواء على مستوى المؤسسة الرسمية أو العائلية" هو تربية الأفراد بناء على منظومة قيم عالية، وفي الوقت ذاته، تطوير أخلاقيات الوظيفة العامة والالتزام بتطبيقها دون هوادة. فأخلاقيات المهنة دون وازع قيمي ينبع من داخل الأفراد، تكون مجرد تطبيق لإجراءات شكلية تحضر وتغيب حسب مستوى الرقابة. وفي المقابل عندما تغيب أخلاقيات الوظيفة العامة تضمحل القيم الداخلية عند الأفراد وينشأ صراع في داخلهم بين قبول ثقافة انعدام الخلق في بيئة العمل أو رفضها ومواجهة تحديات الرؤساء والزملاء والمراجعين. وهنا يبرز تساؤل في غاية الأهمية خاصة ونحن نواجه تحدي الفساد وانعكاساته السلبية الكبيرة، هل نحن كمجتمع جادون في مكافحة الفساد؟ والسبب في طرح هذا التساؤل هو التناقض بين التصريح في القضاء على الفساد والتباطؤ في تغيير الثقافة التنظيمية السائدة في الأجهزة الحكومية التي تغري ضعاف النفوس باستغلال الوظيفة العامة لتحقيق منافع خاصة على حساب تعطيل المصلحة العامة. فما زالت الوظيفة العامة في كثير من الأحيان تمارس بشخصنة وتدار الأمور بعيدا عن المهنية والعمل المؤسسي وبمستوى متدن من الشفافية والمساءلة.
إن الفساد بكل بساطة يعني سوء الأخلاق وضعف منظومة القيم، وهو استمراء للخطأ أو الشرعنة له! فإذا كان الناس يرون أن "أخذ ما لا يحق" أي الوقوع في الحرام سلوك مقبول، ويوصف صاحبه بالحذلقة والدهاء! فهذا مؤشر خطير يصيب المجتمع في مقتل، ويتطلب مواجهته بصراحة وانفتاح، ومناقشة ما لم يكن قابلا للنقاش بشفافية وموضوعية وتجرد من الأهواء الشخصية وبغض النظر عن المكانة الرسمية والاجتماعية. إن ما نحتاج إليه هو تربية الأفراد وإعادة تثقيف المجتمع بما يتفق مع مرجعيتنا الأخلاقية وهي القيم الإسلامية وجعلها واقعا ملموسا في حياتنا على الصعيدين الشخصي والمؤسسي. فهناك فجوة كبيرة بين ما نقول وما نفعل، وهي فجوة ثقافية تخل بتوازن المجتمع وتجعل الأفراد أقل إنتاجية وأكثر أنانية ليجنح الكثيرون منهم نحو الاستحواذ والبحث عن أسهل الطرق وليس بالضرورة أفضلها. وعندما يسيطر على المجتمع حب التملك وليس الإنجاز تظهر المباهاة في أبشع صورها، فيقيَّم الناس بما يملكونه وليس بما يصنعونه. وهكذا تكون بذرة الفساد قد غُرست في نفوس الناس وسيطر عليهم حب الاستهلاك والجشع واقتناء الأشياء ما يدفعهم نحو السعي حثيثا للحصول على الأموال بغض النظر عن شرعيتها، بل إن اقتضى الأمر شرعنتها بطريقة انتهازية لا تخلو من الكبر والسماجة وحتى البلادة والجهل. وإذا ما كان استغلال المال العام واستباحته أمراً غير مقبول شرعاً ونظاماً فإن أضراره لا تتوقف عند حد اختلاسه وحرمان الآخرين من حقوقهم والإخلال بالحالة العدلية في المجتمع، بل يتعداه إلى تهديد الأمن والسلامة والصحة العامة من جراء سوء تنفيذ المشاريع الحكومية. والأدهى والأمر أن ذلك يرسم صورة ذهنية لدى أفراد المجتمع أن اختلاس المال العام وسوء استخدام السلطة معيار ثقافي مقبول ليتوالد بعد ذلك ويتفرع وينتشر في كل الاتجاهات وعلى جميع المستويات، فيكون هم الفرد الحصول على مبتغاه فحسب، لتنعدم الرؤية المشتركة وتغيب المصلحة العامة. ولذا لم يعد مستغربا بعض التصرفات الخاطئة للأفراد في الأماكن العامة سواء كان ذلك في جهاز حكومي، أو مدرسة أو حديقة عامة أو طريق وغيرها. فالكثيرون غاب عنهم مفهوم المصلحة الجماعية وأصبح كل فرد يعيش لنفسه حتى أصبحت الحكومة بالنسبة لهم مجرد مانح وليست إطارا لصياغة القرار الجماعي، فإن أُعطي رضي وإن منع سخط دون مساهمة تذكر في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وعندما يكون الناس عالة على الحكومة فهذا الفساد بعينه؛ لأنه فساد جماعي يعطل العمل التنموي ويتحول الناس إلى مجرد مستهلكين، متفرجين، وناقدين وربما وصل الأمر بهم إلى ناقمين.
هذه الحالة الثقافية التنظيمية التي يتخلق فيها الفساد تستوجب وقفة صارمة وجريئة على جميع الصعد الرسمية والشعبية. وهي بالضرورة تتطلب التعرف عليها والاعتراف بها بداية ومن ثم اتخاذ قرارات وطنية تعيد صياغة نظام الإدارة الحكومية على أساس من المعايير المهنية وتقويم الأداء والربط بين المدخلات والمخرجات وتعزيز الرقابة والمشاركة الشعبية والإدارة بالقدوة الحسنة، باعتبارها مفتاح هذا التحول الثقافي إضافة إلى أهمية تطوير الأنظمة الإدارية والمالية، لأنه لا تغيير دون قادة رياديين يصنعون الفرق بجسارة وجرأة. وقصارى القول إن أخلاق الفساد يجب أن تستبدل بأخلاق النزاهة، حتى لا ينزلق المجتمع إلى مستنقع التخلف والتفكك والضعف.