إدارة المواقف بين الفزعة والموضوعية

مصطلح الفزعة مصطلح جميل يحمل في طياته معاني النخوة، والمسارعة في مساعدة الآخرين بكل ما يستطيع المرء، سواء في جهد بدني يقتضيه الموقف، أو عون، ومساعدة مالية، أو في جاه، ووجاهة تستوجب السعي لدى أطراف أخرى بهدف حل مشكلة هم طرف فيها للوصول لحل الإشكال، وزواله لأن المستفزع لا يستطيع فعل شيء يخلصه مما هو فيه.
الفزعة عرفتها معظم المجتمعات حتى قبل نشوء الدول الحديثة، حيث كان الناس يفزع بعضهم لبعض في مواسم الزراعة، سواء في لقاح الأشجار، كما في النخيل لدينا في المملكة، أو قطف الزيتون في بلاد الشام، أو في مواسم الحصاد، إذ يتجمع الجيران، وبروح جماعية لمساعدة جار في إنجاز أمر من الأمور التي تهمه، وليس بإمكانه إنجازه لوحده، كما أن الفزعة تحدث في الظروف الطارئة غير المتوقعة، كما في حوادث الحريق، أو حوادث السيارات، أو في مواسم الأمطار حين تجتاح السيول مواطن السكن، ومن أبسط الأمثلة في مجتمعنا تظهر الفزعة على الطرق حين تتعطل سيارة مسافر، إذ يسارع الناس إلى نجدته، وإصلاح العطل ليستمر في سيره.
مع قيام الدولة الحديثة، بما فيها من أنظمة، ولوائح، وقوانين امتدت الفزعة إلى مواقع عدة لتجاوز إجراءات بيروقراطية تحول دون إنجاز عمل لفرد من الأفراد، مع نظامية الموضوع، إلا أن سوء فهم للنظام، أو فسادا إداريا يوجد في إدارة من الإدارات يحول دون ذلك، فتكون فزعة فرد لدى هذه الإدارة، لا لتجاوز النظام، بل لإزالة العائق اللا نظامي المتمثل في تفسير خاطئ للائحة، أو تعنت مسؤول، لا لشيء إلا لإرضاء نزعة تسلطية مصحوبة بغرور.
البعض يفهم الفزعة بصورة خاطئة، إذ يسعى مسعى خاطئا في محاولة منه سواء كان داخل الجهاز، أو خارجه، إذ يحاول إنجاز ما طلب منه إرضاء لصاحب الطلب حتى لو كان في تحقيقه مخالفة النظام، وحتى لو كان على حساب حقوق الآخرين، وهنا تكون الفزعة خرجت من معناها الشريف، والنظيف، وأخذت شكلا آخر يمكن تسميته بالواسطة، والفساد الإداري.
الفزعة من أجل مساعدة الآخرين عمل إنساني، فالناس ليس كلهم بالقدرة نفسها على الدفاع عن حقوقهم، أو إيضاح مطالبهم، أو معرفة النظام، ولذا تكون الفزعة في موضعها الصحيح، والمستحق طالما أنها لا تتعدى إلى حقوق الآخرين. ما من شك أن الفزعة تتحقق نتيجة مشاعر إنسانية تحرك الفرد، وتدفعه لفعل خير، لكنها قد لا تحقق الهدف إذا كان الفرد لا يجيد ما يقدم على الفزعة فيه، فمن ليس له خبرة في الطب قد يضر بفرد وقع له حادث، بالرغم من أن الدوافع نبيلة لكن افتقاده المعرفة، والخبرة، والمهارة تحول دونه وتحقيق الهدف، ومن لا يجيد السباحة يصعب عليه إنقاذ الغريق حتى وإن كان يتقد فزعة في داخله رغبة في إنقاذه.
إذا كانت الفزعة في أساسها نزعة فردية لفعل الخير إلا أنها مع الزمن، ومع تعقد الحياة أصبحت أكثر تنظيما حيث أصبحت في الغالب تتم وفق إجراءات، وترتيبات رسمية مرتبطة في الحكومة، كما في الدفاع المدني، أو النجدة، أو الهلال الأحمر، ومن صورها أيضا الأعمال الجماعية على شكل جمعيات مدنية بعيدة عن البيروقراطية الحكومية، كما في الكشافة، وأطباء بلا حدود، وجمعيات الإغاثة التي تهرع لنجدة الناس، والوقوف معهم أين ما كان الخطر، كما في حالة الزلازل، والبراكين، والفيضانات، ومن الصور أيضا الجمعيات الخيرية التي تأخذ على عاتقها الاهتمام بالفقراء، والمحتاجين، أو كبار السن، والمرضى، حيث تقدم لهم الخدمات، والعناية التي يحتاجون إليها.
ميزة جعلت الفزعة بصورة منظمة تتمثل في سرعة الوصول إلى ذوي الفزعات، القادرين على أداء المهمات بالشكل الصحيح، واستنفارهم وقت الحدث، أو الكارثة، إذ يمكن تقديم الخدمة من أقرب فرد، أو أفراد بحاجة لها، كما أن من مزاياها عدم ترك الأمر للصدفة، أو للاجتهاد الفردي الذي قد لا يؤدي للنتيجة المرتجاة.
في مجتمعنا نلاحظ مظاهر الفزعة في كثير من المواقف، إذ يتجمهر الناس عند وقوع حادث سير طمعا في تقديم الخدمة، وكذلك في مواسم السيول مع إدراك أن دافع البعض حب الفضول إلا أن من يرغبون تقديم الخدمة قد لا تسعفهم خبراتهم إلى تقديم أي شيء يفيد، ولذا يكون التجمهر مضرا، ومعيقا لذوي الخبرة، والاختصاص ما يترتب عليه من ضرر بالغ.
إن غرس قيمة الفزعة وتنشئة الأفراد عليها أمر مهم إذ بالفزعة يقوى المجتمع، ويزيد لحمة وتماسكا، فهل نبث الأدبيات الحاثة عليها كما في الشعر والقصة والحديث والآية في المناهج، والأفلام، والبرامج الإعلامية لنوجد جيلا تعيش داخله الفزعة؟ لا شيء يمنع من ذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي