البحث العلمي في الوطن العربي .. خذله الأكاديميون والممارسون

لا يمكن تصور نظرية دون تطبيق ولا تطبيق دون نظرية، فالنظرية تمثل الخطة الذهنية والافتراضات التي توجه القرار والسلوك المؤسسي والفردي وتجعله يستند على السببية والرشدانية وينطلق من رؤية وفلسفة وتوجه واضح لما ينبغي عمله. وعندما تكون النظرية موغلة في التعميم، غارقة في التجريد، وبعيدة عن الواقع تصبح عديمة الفائدة، فما يصلح لكل شيء لا يصلح لأي شيء، ولذا فالإيمان بأهمية البحث العلمي وحده لا يكفي، ولكن يلزم تبيان المقصد والهدف الأساس وتوجيهه نحو الإسهام في التنمية الاقتصادية ومعالجة المشكلات الاجتماعية وصياغة السياسات العامة وتطوير المنتجات والخدمات والبحث عن الأفضل في جميع المجالات. لكن مع الأسف اتخذ البحث العلمي شكلا من أشكال المباهاة وإكساب القرار الشرعية والموضوعية وتحسين الصورة وتحقيق شهرة إعلامية ونيل الاعتماد الأكاديمي. يرجع السبب في ذلك إلى وجود فجوة كبيرة بين الجامعات كمراكز بحث وصناع القرار الحكومي والخاص. وهو يعكس حالة من تدني المستوى المهني في ممارسة الأعمال والاعتماد على الاجتهادات الشخصية والتركيز على الحاضر دون الاهتمام بالمستقبل وتغيراته. وعندما يغيب العمل المؤسسي يغيب معه تطبيق المعايير المهنية والمعارف والمهارات المطلوبة لتحقيق الكفاءة والفاعلية في مكان العمل. وربما تعلقت المشكلة في الحالة الثقافية التي تعيشها الأمة العربية من الاتكالية والاقتيات على ما ينتجه الآخرون والانخراط في عمليات التقليد الأعمى دون تمييز فيما يناسب وما لا يناسب مجتمعاتنا. والحديث هنا لا يقتصر على النواحي الثقافية والمجتمعية، ولكن حتى الأمور المادية من المنتجات والسلع التي تتطلب مواصفات ومعايير خاصة تتناسب مع بيئتنا وظروف معيشتنا. هل نحن مجتمعات استهلاكية؟ الواقع يؤكد ذلك، فلقد أصبحنا نستورد كل شيء حتى تلك المنتجات التي توهمنا بأننا مصنعون، هي فقط تصنع على أراضينا، بينما الآلات والمواد الأولية والتقنية والعمالة مستوردة. فأي تصنيع ذلك؟ مشكلتنا في الوطن العربي أننا لدينا كبرياء خادع وتفاخر يعمينا عن رؤية الواقع بحجمه الحقيقي. فهذه وسائل الإعلام تصم الآذان من كثرة ما تذيعه من منجزات اقتصادية وصناعية وكأننا دول صناعية عظمى. كيف لنا في الوطن العربي أن ندعي التصنيع ونحن نعاني تفاقم البطالة؟ ليست بطالة خريجي الجامعات والمعاهد فقط، وإنما بطالة فكرية ومالية وتشريعية وإدارية، إن التنمية منظومة متكاملة مرتكزها البحث العلمي فإذا فُقد تشرذمت الجهود وصار الناس يعملون على غير هدى، حتى وإن اجتهدوا وتفانوا في أعمالهم، فليس المهم صعود السلم ولكن وضعه على الحائط الصحيح، وهذا ما يفعله البحث العلمي.
إن أمتنا العربية تعاني أزمة هوية وغيبوبة ثقافية فلم نعد نعرف من نحن؟ وماذا نريد؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟ وأطلقنا العنان للبيروقراطيين ليقودوا مجتمعاتنا بعقليات جامدة جمود الروتين الذي يلتزمون تطبيقه من أجل التسلط والنظر بدونية لعموم المواطنين الذين يفترض أن يخدموهم. كما أن التنظيم البيروقراطي تنظيم مغلق لا يرى إلا ما بداخله ولا يدرك ما يدور في خارجه، هذا الإغراق في تطبيق الإجراءات البيروقراطية يأتي في ظل غياب الرقابة الشعبية من خلال مجالس نيابية تمتلك سلطة تقييم ومساءلة ومحاسبة المسؤولين في المؤسسات العامة على الأداء وتأثيره النهائي في المجتمع. وعندما لا يكون هناك رقابة ومساءلة وضغوط مجتمعية، يفتقد معظم المسؤولين الحافز والدافع لتطوير العمل والبحث عن حلول جديدة تسهم في ارتقاء المجتمع درجات أعلى في السلم الحضاري والقدرة التنافسية الاقتصادية والتقنية الصناعية. وبالتالي ليس هناك ما يدفع المسؤولين إلى الاهتمام بالبحوث العلمية. في ظروف كهذه تعيش مجتمعاتنا العربية في منطقة الراحة مستلذين باستهلاك الحاضر مستسلمين للظروف ننتظر الأزمات ونتعامل معها بردات فعل عاطفية لا تلبث أن تزول بزوال الحدث لنعود كما كنا عليه. وهكذا ندير شؤوننا العامة إدارة أزمات نطفئ الحرائق هنا وهناك والكل يجري في كل اتجاه ويجتهد لكن دون دليل وخريطة ذهنية تربط بين السبب والنتيجة، نحدد من خلالها أولوياتنا وتوزيع مواردنا بطريقة كفؤة وفاعلة. فتجدنا نصرف مواردنا المالية البشرية في أحيان أكثر من اللازم وأحيان أخرى أقل من اللازم، لأننا لا نملك المعرفة بمتطلبات المجتمع وكيفية تحقيقها. وهذا بسبب غياب البحث العلمي العملي الذي يتناول موضوعات وقضايا تهم المجتمع، والفجوة بين الأكاديمي والممارس لعدم استخدام نتائج البحوث في عملية صنع القرار. هذه الفجوة بين الأكاديمي وصانع القرار أدت إلى الشكلية والرسمية في البحث العلمي والإغراق في بناء النظرية بعيدا عن الواقع وفي الوقت ذاته لم يلتفت صناع القرار لتلك البحوث النظرية لأنها لا تقدم لهم حلولا عملية تساعدهم في تطوير العمل والأداء، ليجدوا أنفسهم مضطرين لاتخاذ قرارات عشوائية تعتمد على الحدس والخبرة والاجتهادات الشخصية، خاصة أنهم في حصانة من المساءلة الشعبية.
لقد حان الوقت لإدراك أن البحث العلمي يتطلب منظومة من العمل المهني يحقق الترابط بين النظرية والممارسة. ومن واقع تجربة شخصية فقد شاركت بدراسات ميدانية ممولة من جهات حكومية أنفق عليها بسخاء وتوصلت إلى نتائج مهمة وتنبؤات مستقبلية واقتراح ماذا يجب عمله لمواجهة التحديات وتجاوز العقبات، إلا أنه مع الأسف أصبحت حبيسة الأدراج ولم يستفد منها إلا أكاديميا بالإشارة لنتائجها في الأبحاث والدراسات. هذه معضلة كبيرة تصيب التنمية في مقتل وتعطل حركة المجتمع وتحريك موارده بالاتجاه والأسلوب الصحيح. والأعظم هو تشكل ثقافة الازدواجية والكيل بمعيارين حتى أصبحت مجتمعاتنا العربية تقول ما لا تفعل وتفعل ما لا تقول، لتكون الأبحاث نظرية مثالية ذات مصداقية عالية باتباعها خطوات البحث العلمي وربما أسهمت في التراكم المعرفي، لكنها لا تعالج المشكلات المجتمعية ولا تقترب من الموضوعات الحساسة أو الجوهرية أو المستقبلية. لقد خُذل البحث العلمي من قبل الأكاديميين والممارسين وضاع في مهب الأهواء الشخصية بين دوافع الترقية العلمية والتقية الإدارية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي