«الميكافيلية» سيئة السمعة .. وارتباطها بالأنظمة الديمقراطية الحديثة

«الميكافيلية» سيئة السمعة .. وارتباطها بالأنظمة الديمقراطية الحديثة
«الميكافيلية» سيئة السمعة .. وارتباطها بالأنظمة الديمقراطية الحديثة

ارتبطت الميكافيلية في المخيال الجماعي الإنساني بذلك المعنى القدحي القائم على الانتهازية والرخص والمنفعة بأي طريقة كانت، مشروعة أو غير مشروعة، أخلاقية أو لا أخلاقية، مباحة أو غير مباحة، فالغاية دائما تبرر الوسيلة.

هذه الكلمة شبه الأسطورية خلقت نقاشا لا يزال صداه ماثلا إلى الآن، وتمت العديد من الردود عليه بين مؤيد وبين معارض، إلا أنه في الغالب اتخذ سمعة سيئة، وهناك شبه إجماع على ما فيه من أخلاقيات شريرة تناسب الطغاة الأشرار من الحكام. فميكافيلي رمز لشياطين الدراما الأوروبية وأحيانا رديف لإبليس بالذات. فهو لم يسلم حتى من "وليام شكسبير" و مسرحياته في عبارة: "ماذا؟ ..هل أنا مخادع؟ هل أنا ميكافيلي؟".

حكاية الكتاب

تعود كلمة الميكافيلية إلى رجل اسمه نيكولا ميكافيلي (1469 / 1527) وهو شخص عاش في نهاية القرن الخامس عشر و بداية القرن السادس عشر، كان يشتغل كرجل سياسة في إيطاليا لدى عائلة حاكمة "آل ميدتشي" كانت تسيطر على إمارة فلورنسا، حيث كان يقوم بمهام دبلوماسية، فتمكن من السفر إلى مجموعة من الدول الأوروبية الأمر الذي جعله يطلع على الممارسات السياسية عن قرب ويعرف كيف تبرم العقود بين الدول وكيف تفسخ وكيف تشن الحروب وكيف تحاك الدسائس، إضافة إلى ذلك فالرجل تكلف بتنظيم الجيش مما زاد من خبرته العسكرية والأكثر من هذا وذاك أنه كان رجلا مثقفا بحيث كتب في التاريخ والمسرح كما كان قارئا جيدا.

#2#

باختصار، هو يجمع ما بين الجوانب النظرية والجوانب التطبيقية، والجوانب العلمية والجوانب العملية. إلا أنه في ذات يوم وقع بينه وبين العائلة الحاكمة شنآن، حيث تم اتهامه بالاشتراك في مؤامرة جمهورية، فطرد من العمل السياسي وعاش في المنفى التوسكاني. وبعد مرور الوقت أحس ميكافيلي بالحنين إلى العمل، فقرر العودة إلى الشأن السياسي، الأمر الذي دفعه إلى التودد والتقرب للأمير " لورينزو" طالبا الصفح، مما دفعه إلى التفكير في تقديم هدية له كانت عبارة عن كتيب صغير عنوانه: الأمير. يقول في مقدمته " إن الناس حينما تريد التقرب منك تقدم لك هدايا تليق بمقامك: كالجياد الأصيلة والملابس الموشاة بالأحجار الكريمة و بعض الأسلحة أو التحف الثمينة، لكن بالنسبة لي قررت أن أهدي لكم خلاصة تجربتي و قراءاتي التي جمعتها في هذا الكتيب الصغير الذي أتمنى أن يجد قبوله عندكم".

قوة الدهاء

إن كتاب الأمير ذائع الصيت، كتب خصيصا لأمير بعينه هو " لورينزو " فالكتاب يحتوي على مجموعة من النصائح والتوجيهات، يقول عنها ميكافيلي إنها عصارة خبرته السياسية، وهو يقدمها للأمير كي يحافظ على سلطته وكي يتمكن من الدفاع على مصالحه. فما هي هذه النصائح التي جعلت الميكافيلية عارا لاحقه حتى الساعة؟

بعض النصائح المقدمة من طرف ميكافيلي للأمير:

●ينصح ميكافيلي الأمير بأن يفسخ العهد إذا ما كانت فيه مصلحته منبها إياه إلى أن العظماء أصبحوا كذلك لأنهم لم يصونوا العهد إلا قليلا.

●ينصح ميكافيلي الأمير بأن يستخدم القوة تارة والقانون تارة أخرى وذلك بحسب الحاجة.

●ينصح ميكافيلي الأمير بأن يتحلى بصفات الأسد، أي القوة وذلك لمواجهة الذئاب
المتربصة به وفي الآن نفسه ينصحه بأن يتحلى بصفات الثعلب، أي المكر والدهاء للتمكن من معرفة الفخاخ وفضح الدسائس التي تحاك له في خلسة منه، منبها إياه إلى أن الأمير الذي يدخل غمار السياسة مكتفيا بالقوة فقط فإنه لا يفقه شيئا في السياسة.

●ينصح ميكافيلي الأمير بأنه حينما يمارس سمات الثعلب، فعليه إخفاء ذلك ما أمكن والعمل على التمويه والمراوغة.

●ينصح ميكافيلي الأمير بالتحلي ما أمكن بالخير والصفات الحسنة من صدق ووفاء ونبل، لكن عليه أن يكون على أهبة الاستعداد للانقلاب نحو الشر والانقلاب على الصفات الحسنة.

تدبير الممكن

نصل الآن إلى الأهم: ماهو جديد ميكافيلي؟ ما الذي يجعل منه منعطفا واحدا فاصلا بين جديد وقديم؟ ما الذي يجعله مكتوبا بخط واضح وبارز في تاريخ الفكر السياسي الحديث؟ باختصار أين تكمن أصالته وجديته؟

ميكافيلي يخلق المفارقة التي تستدعي الحل:

إذا كانت الفلسفة السياسية القديمة قد تحركت في إطار البحث عن النظام السياسي الأمثل، وغلب عليها الطابع الحالم اليوتيوبي، وكانت ذات مسحة أخلاقية، تنشد ما يجب أن يكون، بحيث بنت جمهوريات ومدنا فاضلة غير إجرائية ولا يمكن إنزالها على أرض الواقع جعلها وهمية وخيالية ومجرد أمل بعيد المنال صعب التحقق إن لم نقل مستحيلا، فإن ميكافيلي كانت دعوته إلى تجاوز كل طوباوية حالمة وكل مدينة فاضلة لأن الإنسان شرير بطبعه وأناني وله ولع بالهيمنة على الغير أو على حد التعبير الشهير " الإنسان ذئب لأخيه الإنسان" والذي سيستخدمه "توماس هوبز" فيما بعد. إن هذا الشرط الإنساني الذي صاحب الإنسانية مند بدايتها الأولى، يتطلب تغييرا للرؤية والعمل على الانتقال من منهج خيالي إلى آخر واقعي، عملي وبراغماتي، دنيوي لا سماوي، شعاره: تدبير الممكن والغاية تبرر الوسيلة.

سياسة الأخلاق

مع ميكافيلي سيتم فصل السياسة عن الأخلاق، وتصبح الكلمة العليا للمصلحة وذلك باستخدام المشروع وغير المشروع واستغلال كل المتناقضات:(صفات حسنة/ سيئة، قوة/ مكر، وفاء بالعهد/ فسخ للعهد) التي من شأنها الحفاظ على السلطة. بعبارة أخرى سيميز ميكافيلي ما بين الأخلاق الشخصية والأخلاق السياسية، فاذا كان الفرد مطالبا على المستوى الشخصي بالتحلي بمكارم الأخلاق فيبتعد عن الكذب ويفي بالعهود ويتجنب العنف، فإن هذه الأمور تصبح مقبولة لا بل ضرورية لبلوغ الأهداف السياسية.

إننا مع ميكافيلي ندخل إلى مفارقة خطيرة جدا، فهو يدعونا لتجاوز المدن الفاضلة، فهي مجرد وهم وفي الآن نفسه يدعونا إلى ذئبية مقيتة وواقعية سياسية شرسة تضرب كل أمل في غد أفضل باعتبار مسلمته القائمة على أساس شرانية الإنسان كحتمية وشرط لا يمكن تجاوزه. بهذه المفارقة يكون ميكافيلي قد أسدى للفكر البشري خدمة وبخاصة في المجال السياسي، فقد طرح المشكلة التي ستحرك عجلة البحث عن حل، وتمت طرافته، لقد كان كالبوصلة الموجهة والتي ستحرك الهمم ببحث شاق دام أزيد من قرنين بعده فكان المولود سعيد الحظ إنه:"نظرية التعاقد الاجتماعي"، مع رواد الفكر السياسي اللاحقين ونخص بالذكر "هوبز، لوك، روسو" فهذه النظرية ستحافظ على المسافة بين المثال والواقع، فهي واقعية ومثالية في الآن نفسه، لأنها من صنع الإنسان وبقرار منه من جهة، كما أنها ستضع حدا للشرانية والذئبية وتعمل على خلق سلم جماعي بعيدا عن العنف من جهة أخرى.

أستاذ الفلسفة/ المغرب

الأكثر قراءة